رواية (بُـذُور مَـلْعُــونَــة) (4) ::: للأديبة الراقية حنين فيروز ؛؛؛

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
رواية _________ بُـذُور مَـلْعُــونَــة (4)
عادت هدى إلى سيّارتها بخطى منكسرة يثقلها الألم الشّديد،جلست خلف مقودها وأجهشت بالبكاء..وهتف صوتُ في غياهب أعماقها ..
ما مِن رضيع لدى السّيّدة ولا أثر له..لا أثر أبدا..ماذا ستفعلين ؟هل ستشرعين في مطاردة الاحتمالات الواهية مرّة أخرى..؟
رفعت رأسها بعناد وفكّرت ..ربّما تركته السيّدة في رعاية إحدى قريباتها ريثما تعود..
تنهّدت بارتياح وجفّفت دموعها،جذبت حقيبتها وأخرجت هاتفها ،ثمّ أطفأته..آخر شيء يمكنها فعله هو الرّد على الهاتف مهما كان المتّصل ..مهما كان..
في الجانب الآخر من الشّارع كانت عيني صاحب الكشك تراقبانها بإمعان،بدا منزعجا ومتوتّرا،تصارعت أفكار متضاربة في رأسه،وداهمته نوبة من الشرود،حتى أنّه نسي أن يعيد الباقي إلى الزّبون الواقف أمامه،اعتذر له سريعا،وانزوى في ركن الكشك يحاول فكّ رموز الأحجية..لكن عبثا لم يتوصّل لشيء،جذب من الرّفّ لوحي شكلاطة ووضعهما جانبا وتمتم :
_هذان يفيان بالغرض!
واتكأ على جانب منصته وانتظر ظهور البنتين الصغيرتين..
قفلت هدى عائدة إلى البيت،ولم يفتها أن ترى أن حماتها تتناول فطورها وبقربها أكرم الصغير يمسك بقطعة بسكويت يبلّلها بلعابه ويصفّق بيديه فرحا..
صاحت حماتها بصوت حاني :
_تعالي يا ابنتي واجلسي بجانبي،لتتناولي فطورك،تبدين شاحبة !
تجاهلت هدى عبارة حماتها ودلفت إلى غرفتها بصمت..هذا الصّمتُ الذي حارت حماتها في أمره وعجزت عن أن تستشفّ من ورائه شيئا..
لو أنّ هدى ثارت كعادتها لالتقطت حماتها بضع كلمات من حديثها الغاضب ولخرجت بنتيجة ما..إنّما الصمت مثله مثل جدران عازلة لا يمكن سماع ما يحدث في الداخل أبدا..مهما بلغت قوّة الضجيج والصخب..
وهدى تجيد لغة الصّمت فهي كبُرت وترعرعت داخل فقاعته ، بيت خالٍ إلاّ منها ومن أمّ هاني..لم يمنحها سوى عزلته وصمت جدرانه العميق..
حتى عودة والدها من العمل أو خارج البلد لم تمنحها بهجة أو على الأقلّ دفئا،نمطيّته سرمديّة،ربما الناس يتغيّرون لكن والدها ليس منهم،لطالما شعرت أنه مختلف كلّيا عنهم..كأنّه تطبّع بطبع الأوروبيين وبرودهم بحكم تردٌده على الخارج كثيرا،لم يكن فاحش الثراء إنّما كان يصارع فشل مصنعه الصّغير الذي راهن عليه بكلّ ما ورث من جدّها..
حتى حين كانت تسمع بوق سيّارته وتعلم بعودته لم تكن تسارع بالقفز فوق السّلالم لتعانقه بلهفة،لأنه يكتفي بطبع قبلة باردة على وجنتها ويبتسم ابتسامته المعهودة ويقول بحزم :
_كلّ شيء بخير بابا ؟
تومئ هدى برأسها وتجيبه :
_بالتأكيد !
لقد حاولت مرّات عديدة أن تخترق عالمه المملّ لعلّها تكتشف فيه جانبا آخر ،لكنّه كان يرفع يده ويوقفها فورا حتى لو قالت أنّ الأمر مهمّ جدّا أو حتّى خطيرا ليمطّ شفتيه بضيق ويقول بحزم :
_ليس الآن بابا،أنا واثق أنّك ذكيّة ولستِ بحاجة إلى رأي هرمٍ مثلي !
وتتّجه هدى إلى المطبخ وتراقب أمّ هاني وهي تعمل دون كلل، وتتنقّل كالنّحلة النّشيطة بين المطبخ والحجرات لكي تنظفها،ثمّ تعرج إلى الحديقة لتكنسها، تضع هدى يدها الصغيرة على خدّها وتتساءل هدى بحيرة :
_أليس في الحياة شيء آخر غير العمل المتواصل..أما من جوانب أخرى مختلفة ؟
لأجل ذلك تحالفت هدى مع الصّمت حتى امتزجت به وصارت وإيّاه كائنا واحدا،سنوات طويلة بنفس الوتيرة جعلتها تحسّ أنها عاشت فقط يوما واحدا طويلا كئيبا..إلى أن لاح أسعد في الأفق، فعزفت الأيّام سمفونيّات صاخبة أطاحت بالمحتلّ القديم..ذلك الصمت الذي امتزج بكلّ شيء حولها وتغلغل في غياهب أعماقها..
لكنّ أسعد نجح في اختراقه من اللحظة الأولى،وطار رداء الصّمت ورفرف عاليا في السّماء وأُطلِق سراح الطفلة السّجينة داخلها ..لكنّها كانت تخرج فقط لأجل أسعد،وتختفي أمام الآخرين كطفل صغير يتوارى خجلا من الضّيوف..ويدفن رأسه فقط في صدر أمّه ويلوذ بحضنها الدافئ هربا من نظرات الآخرين وابتساماتهم الممطوطة..
_لقد عثرتِ على كنزٍ يا هدى،احذري أن تطفئي دفئه ببرودة صمتكِ،أسعد أمثاله قليلون،أنا واثقة أنّك ستكونين تاجا فوق رأسه..
هكذا عبّرت أمّ هاني عن فرحتها واستطردت بهدوء :
_لا تغضبي من وقاحتي فقد صرتُ عجوزا،وهذا قد يشفع لي عندك،كما وظبت حقائبك وظّبتُ حقائبي،،الآن فقط أنهيتُ مهمّتي وسأعود إلى قريتي قريرة البال والفؤاد !
تابعت هدى ترتيب حقائبها بصمت وكأنّ أمّ هاني تكلّم أحدا سواها،،غريب أمر مربيّتها فقد اعتنت بهدى منذ الصّغر ورعتها بإخلاص وتفانٍ واهتمّت بكلّ صغيرة وكبيرة لكنّها حرِصت على إبقاء مسافة بينهما،هكذا اشترط والدها منذ مجيئها رفقة خالها،،ووافقت هي على العمل بدون كلام ولا مشاعر،وفهمت أنّ هناك خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها أبدا..
لذلك أوصدتْ أمّ هاني أبواب قلبها وتركت نافذة جانبيّة يطلّ منها على هدى الصّغيرة،وحرصت على ألا يقفز ويسقط عند قدميها..
بعض البشر لديهم الاستعداد التّامّ لكمّ هائل من العطاء دون انتظار المقابل،مهما طال الزّمن لا يكلّون ولا يملّون من الغرف من قلوبهم الطيّبة وسقي القلوب البور ..
تمدّدت هدى في سريرها وشعرتّ أنّ عقلها صار مجرد ورقة جافّة تتلاعب بها رياح الخريف،عشرات الأسئلة تطوف في فكرها المضطرب واحتمال موت صغيرها كمطرقة تهوي في كل لحظة على صحن حديدي وفتحدث رنينا مزعجا
إن كان حقّا ما اعتقدته فلابدّ من إعادة أكرم الصغير إلى أمّه..لكن كيف تنتزعه من أحضان جدّته ووالده،كيف لها أن تكافئ محنتهما معها وصبرهما وتخبرهما بكلّ صلافة أنّ الولد لا يمثّ لهما بصلة..؟
وحدها الشّرطة تستطيع إعادة الأمور إلى نصابها،لكن قبل ذلك عليها حزم أغراضها والرحيل،فهدى لا تملك ذرّة واحدة من الشّجاعة لتواجه هذين الملاكين وتقوّض آمالهما في لحظات مأفونة..
تنهّدت هدى بارتياح حين وصلت بتفكيرها في الاستعانة بالشرطة،وقامت ثانية تنتعل حذاءها وتجذب حقيبتها وتغادر البيت على عجل..
عبست حماتها وهي تختلس إليها النظرات ولو شفتيها بامتعاض وغمغمت :
_حين ترتدين هذه المعاطف القاتمة اللون أعرف أنكِ لستِ بخير يا ابنتي..
أزاحت السّتارة وأحنت رأسها تراقب كنّتها خلسة وهي تعبر الطريق متّجهة نحو سيارتها ،ثمّ رفعت رأسها إلى السّماء وهتفت :
_رحماك يا ربي !
رنّ جرس الهاتف في حجرة الصالون فهرولت إليه،وضعته فوق أذنها وما إن سمعت صوت خادمتها كريمة حتى صرخت في وجهها :
_اسمعيني أنتِ،غيابك يؤثر عليّ،لا يمكنني الاعتناء بحفيدي وكذلك شؤون البيت،هذان اليومان اللّذان تغيّبتِ فيهما نالا من جهدي ومن صحّتي ..
توقّفت للحظات قبل أن تستأنف ثانية حديثها وهي تحرّك رأسها بانزعاج:
_أدرك أنّ ابنك مريض وتغيّب عن المدرسة وأنّ حماتك رفضت الاعتناء بالرّضيعة وأعادتها إليك،لكنّي لا أستطيع الصّبر أكثر،جدي لنفسك حلّا أو أجلب أنا خادمة أخرى..
صمتتْ قليلا ثمّ زفرت باستياء وقالت :
_حسنٌ،تعالي اليوم لتهتمي بالمطبخ لأنه صار كحظيرة الّدجاج،وسنرى ما يمكن فعله لاحقا !
أعادت السيّدة كنزة الهاتف إلى مكانه ورفعت حاجبيها تستغرب من تصاريف الدهر..أولاد بدون مال..ومال بدون أولاد..
ابتسمت بسعادة حين سمعت صيحات أكرم الفرِحة وهتفت : الحمد لله الذي وهبنا هذا الملاك..
اتجهت إلى غرفة حفيدها وهي تغنّي له وتصفّق بيديها له..
أمام مبنى مديرية الأمن توقّفت هدى بسيّارتها،اعترتها موجة من الاضطراب والترددّ ،لكنّها ما لبثت أن لمحت ذلك الضابط يخرج مسرعا برفقة خمس عناصر من الشّرطة،وركبوا سيّارة كبيرة وغادروا المكان..
أغلقت هدى باب سيّارتها بغضب وغمغمت بحنق :
_يا للحظ التعيس !
نظرت إلى وجهها الشاحب في مرآة السيّارة،حملت هاتفها وشغّلته واتصلت بصاحب الكشك ..
سألته باقتضاب :
_هل عادت السّيّدة ؟
أجابها صاحب الكشك بحماس:
_نعم سيّدتي..لقد استطعت معرفة بعض المعلومات..
استيقظت حواسّ هدى من خمودها وهتفت :
_نعم،نعم أكمل !
_لقد عرفتُ أنّ السيّدة لديها مشاكل وتنوي الانفصال عن زوجها لذلك تركت بيتها طوال الشهور الماضية،وبالنّسبة للرضيع فقد توفّي منذ شهور بعد إصابته بالحمّى و..
شعرت هدى في تلك اللّحظة بخنجر مسموم يمزّق قلبها إلى أشلاء،ولم يكتف بضربة واحدة لكنّه واصل الطّعن حتّى الضّلوع،ومادت الدّنيا تحت قدميها..بينما واصل الرّجل كلامه :
_آلو سيّدتي هل تسمعينني،أعتقد أنّ هناك خطأ ما،أنتِ تسألين عن رضيع وهي كانت لديها رضيعة،،آلو سيّدتي..هل تسمعينني؟
الآلام المبرّحة الّتي مزّقت قلب هدى حالت بينها وبين سماع تلك العبارة،لكنّ عقلها سرعان ما رفع ستائر الصّدمة ،بل سمع واستوعب جيّدا،ثمّ نبّهها بقوّة وأيقظها من شرودها،استعادت هدى صوتها وجاهدت لتسأله بصوتٍ واهن :
_ماذا قلت ؟
_قلتُ سيّدتي.. أنّ تلك السيّدة كانت لديها رضيعة وإسمها مريم،هذا ما رددّته الفتاتين الصغيرتين..
بدون وعي منها أنهت المكالمة وشعرت أنها سقطت فوق سطح بحر هائج،لا أحد يعلم هل ستخرج منه سالمة إلى الشط أم لا ..
للقدر أحيانا مفاجآت رهيبة،وصدمات عنيفة يقف العقل إزاءها مشلولا لا حول له ولا قوة،كلعبة بازل بعثرها طفل صغير في أرجاء غرفته،واستعصى عليه إعادتها إلى صيغتها الأولى..
خيّل إلى هدى وهي تقود سيّارتها بعيدا أنّ دماغها سيفرّ من رأسها ويتطاير في الهواء،من هول الصدمة ووقعها العنيف عليها..
صرخ صوت داخلها بأعلى قوّته :
_مستحيل ..مستحيل !
حاولت السّيطرة على انفعالاتها واضطرابها ،واتجهت بسيارتها نحو الكورنيش وتوقّفت بمحاذاته..
أمسكت رأسها بكلتا يديها ودلّكت جبينها عدة مرّات،ثمّ زفرت بعمق، أخرجت مذكرتها البنّيّة من حقيبتها وكتبت كلمة واحدة.. "الممرّضة" .. وخطّت أسفلها ثلاثة خطوط ..
(يتبع)
حنين فيروز 25/04/2016
التصنيف : |
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات الجريدة يحيى خضر روائع الشعراءضع ابداعك هنايحيى خضر زيارة صفحة الخصوصية
نسخ الرابط
نسخ للمواقع
التعليقات
0 التعليقات

احدث المواضيع

3efrit blogger 

عدد زوارالجريدة

اضغط اعجبني

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في كل الوقت

احدث المواضيع

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في أخر 30 يومًا

ارشيف الجريدة

جميع الحقوق محفوظة © يحيى خضر
تصميم و تطوير : يحيى خضر
يحيى خضر © 2016