رواية ((بُـذورٌ مَـلْعـونَـة))؛؛؛ (3) ؛؛؛ للكاتبة القديرة ::: حنين فيروز ؛؛؛

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
رواية _______ بُـذورٌ مَـلْعـونَـة (3)
ضخّ قلبُ هدى دماء جديدة يتقدّمها الأمل في كلّ شرايينها..حتّى أسعد بات مستغربا من مزاجها الهادئ،وحاول عدّة مرّات حثّها على الكلام ليعرف سرّ ملازمتها للبيت وطلبها لأجازة مدّتها أسبوعا،لكنّها لاذت بالصّمت وابتسامةٌ غامضة تعلو وجهها الجميل..
سكونٌ يعمّ الغرفة ..ولا يكدّر صفوه سوى شخير أسعد المُتعَب، الّذي يدفن رأسه في العمل المتواصل هروبا من سلسلة المشاكل والهموم..
شرع عقل هدى في فرز أفكاره المتداخلة،ولمع فجأة وميضٌ يذكّرها بالرّسالة وبفحواها الذي يحمل في طيّاته الأمل في رؤية طفلها الحقيقي واحتضانه ثانية..
هتف صوتٌ فرحٌ في أعماقها..
أخيرا عدتِ أيّتها الأمّ البديلة لفلذة كبدي..كم أنتِ محظوظة..لديكِ بنتين جميلتين..ثمّ هذا الصغير المزعج " أكرم"
في كلّ الأحوال أنتِ لن تخسري شيئا،لأنّي سأعيد إليك طفلكِ وآخذ طفلي..!
انقبض قلبها وهي تتساءل :
هل هو بخير..ألم تبدو عليه علامات المرض..؟ ألم ترتفع حرارته..؟ هل شرع في الكلام ..؟هل قال لها ماما..!
تقلّبت على جنبيها عدّة مرّات محاوِلةً النّوم،لكنّ العقل الذي يسكن رأسها عنيد وجبّار..لا يمكن هزيمته أبدا،لم تنطلِ عليه حيلتها الّتي خطّطت لأجلها طويلا..
كلّما بسطتْ هدى كفّيها في لحظاتِ صفاء لتحمل ذلك الصّغير،يدقّ عقلها جرس التحذير بأعلى درجة ويصرخ :
_هذا الرّضيع ليس ابنك..ليس ابنك !
وتتردّد هذه الجملة بشكل رهيب حتى تكاد تجنّ..
الجنون .. ذلك العفريت المسعور الذي انبثق من قمقم العذاب والذي يشتدّ سعاره كلّما صادفتْ صغيرا يلتفّ بحضن والدته،فينبعث صوته الغاضب ويصرخ بكل قّوته :
_لم أنتِ لستِ مثلهنّ، لماذا وارى الموت فلذات كبدِكِ التّراب،لماذا لا يحومون حولكِ شأنكِ شأن باقي الأمّهات،لماذا لم تنعمي باحتضانهم وبسماع صوت أقدامهم الصغيرة تركض هنا وهناك؟
ويستمرّ ذلك الصوت في لومها حتى يكاد يصيبها بالجنون ويتعمّد إغراقها في عالم الصّمت الحزين..
لكنّ أسعد لم يدّخر جهدا لإخراجها من دوّامة التّيه والشّرود التي غرقت فيها بعد وفاة رضيعتها الثانية،واستطاع بعد جهد جهيد إقناعها بضرورة زيارة الطبيب النفسي..
العيادة التي وقع اختياره عليها تقع في حيّ هادئ راقٍ،تنبعث من جنباتها مقطوعات موسيقيّة هادئة ..
يسود الصّمت جوّها الرّتيب،يتناثر أشخاص ذوو تعابير جامدة فوق كراسي الانتظار،صامتون كأنّ على رؤوسهم الطّير، يشبهون التماثيل التي تزيّن جوانب الكنائس..
لكنّ هدى تدركُ جيّدا أنهم مثلها تماما،هدوؤها الخارجي لا يشي أبدا بما يعتمل في صدرها من معارك وحروب..
الطّبيبة النّفسيّة تشبهها في عدّة أشياء،في لكنتها،في شكلها ،وحتّى في سنّها تبدو كأنها قرينتها،وتنتمي أيضا إلى ذات المدينة العريقة التي وُلدت وترعرت فيها..
لم تشعر بالرّاحة حتّى بعد محاولة الطبيبة الشّابّة كسب ثقتها بابتسامتها اللطيفة وتفهّمها،ما إن تتمدّد على الأريكة حتى تغرق في دوّامة من الشّرود،الذي يوقظها منه حثّ الطبيبة لها بإخراج مكنونات صدرها،تردّ هدى على أسئلتها بإقتضاب..ثمّ تغادر العيادة وفي يدها وصفة عقاقير مهدّئة،ما إن تتناولها حتى تغرق في عالم بلا آلام.. بلا طعم،كأنّه وقت قصّه القدر من عمرها ورماه جانبا..
فقط لو أنّ تلك الطّبيبة مختلفة لاختلف الأمر ولربّما منحتها هدى ثقتها وساعدتها في نفض غبار الألم والمعاناة عن روحها الشقيّة..
أمّ هاني كانت مختلفة،فهي من الجنوب،بشرتها السمراء الغامقة تروق هدى كثيرا،لطالما وضعت يديها الصغيرتين فوق يديْ أمّ هاني وقهقهت ضاحكة لأجل الاختلاف الكبير بين بشرتها العاجيّة وبشرة أمّ هاني السّمراء..
أمّ هاني كانت مدبّرة المنزل ومربّيتها ،إمرأة تجاوزت الأربعين حينئذٍ، قامتها طويلة ،عيناها واسعتان،وأسنانها ناصعة البياض،تعمل بإخلاص وتفانٍ ، وتحترم كثيرا مخدومها الأرمل وابنته الوحيدة..
_دادا..أين ابنك هاني ؟
هتفت هدى ذات الإحدى عشر ربيعا وهي ترسم في دفترها فوق طاولة المطبخ..
تبتسم أمّ هاني وهي منهمكة في العجين وتقول :
_ليس لديّ أبناء يا هدى !
تضحكُ هدى وتضرب كفّا بكف وتسألها بلؤم :
_ولماذا ينادونكِ بأمّ هاني دادا ؟
تغطّي أمّ هاني العجين ليختمر وتجيبها بلطف :
_لا أدري ..هكذا كانت الأسماء..أمّ هاني..أمّ الغيث..أمّ الناس ، فتيات صغيرات بأسماء كبيرة !
_أساورك جميلة حقّا، أليس لديك سوارٌ صغير لأجلي ؟
تهتف هدى وهي تمسك يد مربّيتها أمّ هاني وتمرّر أصابعها على الأساور الملوّنة بإعجاب..
وحين عادت أمّ هاني من إجازتها القصيرة جلبت لها الكثير من الأساور والخواتم في صندوق خشبيّ صغير ..
ورفعت إصبعها محذّرة إيّاها :
_أحضرتُ لك هذه الأشياء فقط لأنّك تحبّينها لكن لا تلبسيها عزيزتي ! لا أريد لسيّدي أن يغضب منّي،بإمكانكِ اللّعب بها فقط !
للوارثة دورٌ مهيمِن ،فهدى ورثت جمال أمّها وشخصيّة والدها الهادئة المتعجرفة وقامته الطويلة ونحافته الدّائمة..
ابتسامته الممطوطة كانت تُشعرها بالضيق لأنّها تخالها لا تنبع من قلبه،تساءلت حين وصلت بتفكيرها إلى هذه النقطة
هل لدى والدها في الأصل قلباً يشعر ؟
يتذكّرها بين الفينة والأخرى ليسأل عنها هاتفيّا فقط وما إن تجيبه حتّى يستطرد بكلماته السّريعة :
_أعرف أنّكِ بخير بابا، فقط أردتُ الإطمئنان،أبلغي سلامي لأسعد وحماتك السيّدة كنزة..! ويغلق الخطّ..
هكذا عهدته يحبّ الألقاب ويؤمن بالطّبقيّة، وأمّ هاني بدورها تحترم كثيرا تلك الفوارق وتحرص عليها بشدة..
للحظاتِ كثيرة شعرتْ هدى أنّها في حاجة للارتماء في حضن حنون..وكان ذلك الحضن أمامها طيلة الوقت،حضنُ دادا أمّ هاني التي تربط شريط حذاءها بهمّة ونشاط وتوصيها بالحذر والاعتناء بنفسها ورأسها ذو المنديل الملوّن تحت ذقنها مباشرة،لكنّها لم تجرؤ على ذلك،ودّت هدى لو فتحت أم هاني ذراعيها عن آخرهما لتحتضنها بقوّة،لكنّها لم تفعل ذلك أبدا..
خُيّل لهدى أنّها سمِعتْ طرقات هادئة على الباب،انتعلت خفّها وفتحته بهدوء،فوجئت بتلك السّيّدة تحمل طفلها وحقيبته،ألجمتِ الصدمة لسانها،لكنّها تداركت الأمر وسارعت إلى الترحيب بها ودعتها للدخول..
جلست في الأريكة المواجهة لها وهي تتفرّس في ملامح الصّغير،كم هو جميل ورائع ..يشبه أسعد تماما..
_يمكنكِ حمله ..تفضّلي !
طارت هدى من مكانها حين سمعت تلك العبارة من السّيّدة وهي لا تصدّق أنها أخيرا ستحتضن طفلها الذي نجح في مراوغة الموت..
عانقته بحرارة وسالت دموع من مقلتيها الجميلتين وهمّت بسؤال السيّدة التي همّت بالانصراف :
_مهلا سيّدتي،انتظري..سأحزم أغراض ابنكِ،وأرجو أن تسامحيني من قلبك،اغفري لي ما قمت به من جرم !
ابتسمت السّيدة ابتسامة غامضة وأومأت برأسها موافقة ..
أسرعت هدى تجمع أغراض أكرم الصغير بيد واحدة ،وضعت الولد فوق السرير بجوار أكرم النائم وعادت تنادي المرأة لتساعدها..
لكنّها اختفت،بحثت عنها في الشقّة لا أثر لها...
لا يهمّها اختفاؤها،المهمّ أنها أعادت إليها ابنها،جرت الى الغرفة لتحمله وتدفن رأسها في صدره الصغير،،لكنّه اختفى هو الآخر..
صرخ صوتٌ في عقلها ..هل يُعقل أن تكون الأمور في غاية السّهولة هكذا ؟
هل ينتهي الألم في طرفة عين بهذا القدر من اليسر،استيقظي يا هدى إنّه مجرّد حلم !
شعرت بشيء ما يدغدغ أنفها،فتحتْ عينيها ببطء،إنّه أكرم الصّغير يداعب وجنتيها بكفّه الصغيرة ..
فركتْ عينيها جيّدا ثم رمت اللحاف بغضب :
_أمّي..لماذا تصرّين على إزعاجي هكذا، لا أحبّ هذا الولد ولا أطيق رؤيته بتاتا!
التفتت حماتها إليها بعدما وضعت السكّين فوق طاولة المطبخ وقالت بحزن :
_إلى متى يا ابنتي هذا الجفاء،الولد حيٌّ وصحّته بخير،ولا بدّ أن ينعم بحنانك !
زمجرت هدى بغضب :
_لا أطيقه وكفى..!
واتجهت نحو غرفته ،وحملته بعصبيّة وأعادته إلى سريره،ثمّ ارتدت ملابسها على عجل،فالسّاعة جاوزت العاشرة وعليها الذهاب إلى هناك..حيث يكمن ابنها الحقيقي..
توقّفت بسيّارتها أمام الكشك وترجّلت بسرعة منها..
صاحت بنفاذ صبر :
_زجاجة مياه معدنيّة وعلكة بدون سكّر !
توقّف صاحب الكشك عن ترتيب السّلع وهرول مجيبا طلبها،واتسعت ابتسامته حين رآها،لا يمكنه نسيان تلك السيّدة الّتي رمت مبلغا ماليا أمامه فقط ليجيب عن أسئلة غريبة لكنّها غير مؤذية بالمرّة..
سألته هدى بلهفة :
_أخبرني هل هو بخير..أقصد الرضيع هل بدا لك بصحّة جيدة ؟
فغر الرجل فاه للحظة وحكّ رأسه بعدما أبعد الطّاقيّة جانبا ثمّ قال ببطء :
_لم أر أي ولد برفقة السيّدة الّتي أوصيتني بمراقبتها منذ شهور،فقط كان برفقتها ابنتيها الصغيرتين..
شحب وجه هدى حتى حاكى الموتى وهمّت بسؤاله،لكنّه أحنى رأسه وتظاهر بالكتابة على ورقة أمامه وهمس :
_إنهم وراءكِ مباشرة سيّدتي..!
نزعت هدى نظاراتها السّوداء عن رأسها وارتدتها بسرعة والتفتت ببطء..
ورأت تلك المرأة تقف عند باب المنزل وتمسك بنتا في كلّ يد،عبرت الطّريق إلى الجهة الأخرى،وأوقفت سيّارة أجرة واستقلّتها هي والبنتين أمام ناظر هدى الّتي هوى قلبها بين ضلوعها وغاص حتّى الأعماق..
(يتبع)
حنين فيروز
22/04/2016
التصنيف : |
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات الجريدة يحيى خضر روائع الشعراءضع ابداعك هنايحيى خضر زيارة صفحة الخصوصية
نسخ الرابط
نسخ للمواقع
التعليقات
0 التعليقات

احدث المواضيع

3efrit blogger 

عدد زوارالجريدة

اضغط اعجبني

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في كل الوقت

احدث المواضيع

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في أخر 30 يومًا

ارشيف الجريدة

جميع الحقوق محفوظة © يحيى خضر
تصميم و تطوير : يحيى خضر
يحيى خضر © 2016