قصة قصيرة (عٓمُّ القِطّ) بقلم الكاتبة :::: حنين فيروز ***

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

قصة قصيرة (عٓمُّ القِطّ) بقلم الكاتبة :::: حنين فيروز ***

قصة قصيرة _______ عٓمُّ القِطّ
اعتادت أمّي الاحتيال علينا بشتّى الطّرق ، لإيقاظنا بوقتٍ أبكر ممّا نرجوه يوم العطلة ، لكنّنا كنّا نفضّل الاستسلام لبقايا نوم يجثم على أجفاننا الصغيرة ، لطالما حاوٓلٓتْ ذلك بأساليب متنوّعة حسب مزاجها، فأحيانا تضيف ساعة إلى الوقت الحقيقي وتهتف :
_استيقظوا يا أولاد إنها العاشرة والبيت لا تزال الفوضى تعمّه ، وربّما يباغتنا ضيوف..هيّا قوموا حالا !
وأحيانا كانت تتوعّدنا بعقاب قاسٍ إن نحن لم نستجب لتحذيرها..لكنّ كلامها ونبرة صوتها كانا مختلفين في ذلك اليوم ، لقد أطلّت برأسها كما هو معتاد وألقت قنبلة مدويّة بالنّسبة لنا نحن الصغار، صرخت قائلة :
_قوموا يا أولاد لقد عاد القط برجل مبتورة..أظنّ أنّ كلب الحارس قد هاجمه !
طافت الجملتين بعقولنا بسرعة رهيبة وترددّ صداها داخلي وأنا أفكّر ..
_ إحدى قوائم القط بُتِرت،..؟ يا إلهي لا يمكن لمزاح أمي أن يكون مخيفا هكذا !
لم يستغرق الأمر منّا سوى ثوان معدودة ، لنرمي اللّحاف تباعا ونركض إلى باحة المنزل ونرى بأمّ أعيننا قطّنا الرمادي الجميل وهو ممددّ،يئنّ من فرط الألم ، تحلّقنا حوله نحملق بحزن في قائمته الممزقة ، التي ما عاد يفصلها عن السّاق سوى قطعة جلد رقيقة.
هتفت أمي فجأة :
_ليس أمامكم سوى عمّكم (الحجّام)..ورفعت أصبعها محذرة إيانا ثم تابعت :
_استعطفوه بكل أدب و تهذيب ، أنتم تعلمون مدى كراهيّته للقطط ! أومأنا برؤوسنا سريعا نوافقها الرأي .
قليلون فقط من كانوا يعرفون لقب جارنا الحقيقي ، فالجميع اعتادوا مناداته بعمّي (الحجّام) ، كان غنيّا عن التعريف ، فمهامّه متعدّدة تبدأ بالحلاقة والختان وتنتهي بمداواة الجروح الصغيرة ، كان كالطبيب حقا، ويشبهه في ارتدائه تلك الوزرة البيضاء على الدوام وكذلك في أناقته ، فربطة العنق لم تكن أبدا تفارقه.
حمل أخي الأكبر القط برفق وطرقنا الباب ، فتحه جارنا عمي ( الحجّام ) وهو يتثاءب ، كان كهلا أصلع الرأس ، ملامحه تبعث على الارتياح والطمأنينة، تفحصَّنا سريعا ،قطّب حاجبيه حين تدفّقت أفواهنا بشلّال غزير من الكلمات السّريعة المتباينة ، لكن عيناه تسمّرتا أخيرا على القطّ وفهم ما نرمي إليه ، لانت أساريره وابتسم قائلا :
_حسنا يا أولاد..!
أحضر حقيبته السوداء التي كثيرا ما أثارت الرعب في قلوب الصّبية الصغار ، كان يكفي أن يسمعوا هدير محرّك درّاجته العتيقة حتى يفرّوا من أمامه ! وإن صادف صغيرا أمام الباب، فهو يحذّره مبتسما أنّ دوره قادم لا محالة، كان الغول المفزع الذي ترعب به نساء الحي أولادهن الصغار .
فحص عمي ( الحجّام ) جُرح القط بعناية ثم حمل المقص وفصل قطعة الجلد تلك ،طهّر الجرح ورشّ عليه غبارا أبيض وقصّ قطعة من الضماد وبدأ يلفّها حول ساق القط..تابعته أعيننا بحرص شديد ، بينما تجاهلت آذاننا الصغيرة تذمرّه وتأنيبه لنا..
صمت قليلا ثم سألَنا متبرما :
_أيستطيع أحدكم أن يجيبني عن جدوى تربية مخلوقات ماكرةٍ ، لا همّ لها سوى السرقة والفرار؟
نظرنا إلى بعضنا البعض واتفقنا على الصمت ،حتى لا نغضبه باحتجاجنا، تنفسنا الصعداء حين أتمّ المهمة على أكمل وجه،شكرناه نحن الأربعة بحرارة وامتنان،بينما غمغم عمّي ( الحجّام ) بكلمات مقتضبة ، مفادها ألاّ نعود إليه مرة أخرى، لأنه قام بالواجب وأكثر.
اعتنينا بالقطّ الجريح وأعددنا له صندوقا في السّطح حتى لا نتسبّب في إيلامه..وكنّا نتسابق لإطعامه، فما إن نحصل على قطعة لحم أثناء الوجبة ، حتّى نتظاهر بأكلها ثمّ نهرع لنضعها أمام القط، لكنّه لم يكن يعيرها أقل التفاتة ، آلمنا فقدانه لشهيته وآلمنا أكثر التهاب جرحه وتورمه، بالرّغم من مداواتنا له يوميا بمطهرّ ولفّه بالقماش.
حين اقترحت علينا إحدى الجارات أن ننثر الرماد على جرح القطّ سعدنا كثيرا بهذا الدواء اليسير ، لكنّنا ما لبثنا أن ندمنا وغضبنا من تلك الجارة، التي جعلت الوضع يتدهور باقتراحها الأحمق ، فقد التهب الجرح إلى درجة التعفّن وصارت رائحته كريهة ..
رغم ذلك كان من المحال أن نفكّر في التخلّي عن قطّنا المصاب، لم نكن نتّفق على شيء أبدا نحنُ الأربعة ، لكنّنا نتّفق بشكل جيد حول أيّ شيء يصبّ في مصلحته، لطالما كان يتسلّل للخروج ليلا، ثم يعود فجرا ويخدش الباب بمخالبه،فنسارع لإدخاله قبل أن يسمع والدي خربشاته، فيغضب منّا ويأمرنا بالتخلي عنه..
كمّ هائل من الحزن ذاك الذي هيمن علينا حين راودنا هاجسُ موت القط..لذلك أصبح همّنا الوحيد هو شفاؤه،لكننا لم نكن نملك إلا الدّعاء له ورفع أكفّنا الغضّة إلى السماء في كلّ مرّة نزوره فيها..
ما أزعجنا بعد ذلك هو ذاك الزائر الغريب الذي أصبح يزاحم قطّنا في صندوقه الصّغير، ما إن يسمع دبيب خطواتنا تقترب حتى يثب بخفة ويختفي في لمح البصر ، كأنّه كان يشعر بنفورنا منه.
وتوالت زياراته اليومية وفراره ،وكم فوجئنا كثيرا يوم رأيناه يلعق جرح القطّ، وعرفنا أنّه يساعدهُ على الشفاء ، ولم يعد يفرّ بعد ذلك بل ينهمك في عمله بهمّة وحماس ، فأحببناه وأصبحنا نطعمه جزاء حسن صنيعه ،وصرنا نناديه عمُّ القط.
لقد استغربنا كثيرا كيف يشفق ذلك القط الكبير المشرّد ذو المظهر المنفر والذيل المبتور على قطّنا الرمادي النظيف ، وبفضله تحسنت حالة القطّ وغمر السرور قلوبنا ، لاستعادته عافيته ، وبالرغم من ذلك لم يعد كالسّابق ، كأنّه حزِن لفقدانه إحدى قوائمه..
كنت في كلّ يوم ألفّ قائمته المصابة بقطعة شاش حتّى لا يؤذيها بالسّير فوق التراب ،تسألني أختي الصغرى بكل براءة:
_هل ستنمو للقط رجلٌ آخرى؟
وأجيبها بكل مرارة :
_لا عزيزتي لقد فقدها إلى الأبد ومعها كل حيويته نشاطه..
و تماثل قطّنا للشفاء بفضل مساعدة القط الكبير، وصارا رفيقين ، ففي كلّ ليلة كنّا نسمعُ عمّ القط يناديه بمواءه من السّطح ، ليتسكّعا ليلا ثم يعودان أول الصباح..
بعد مضيّ شهور قليلة اختفى قطّنا الجميل هكذا فجأة ،تاركا فراغا مهولا في حياتنا ، و أمِلنا عودته طويلا
لكن عبثا ، كان أوّل قطٍّ يُسمح لنا بتربيته وكذلك الأخير..وكبرنا ولم ننس القط الرمادي ولا عمّه الذي أثبت خطأ تلك المقولة ، التي يردّدها الآخرون بأنّ القطط مخلوقات تكره بعضها بشدّة ..!
حنين فيروز 2015/03/16
التصنيف : |
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات الجريدة يحيى خضر روائع الشعراءضع ابداعك هنايحيى خضر زيارة صفحة الخصوصية
نسخ الرابط
نسخ للمواقع
التعليقات
0 التعليقات

احدث المواضيع

3efrit blogger 

عدد زوارالجريدة

اضغط اعجبني

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في كل الوقت

احدث المواضيع

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في أخر 30 يومًا

ارشيف الجريدة

جميع الحقوق محفوظة © يحيى خضر
تصميم و تطوير : يحيى خضر
يحيى خضر © 2016