رواية * بُـذورٌ مَـلْـعـونَـة (7) للأديبة القديرة حنين فيروز ؛؛؛؛

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
رواية________ بُـذورٌ مَـلْـعـونَـة (7)
تنهّد أسعد بارتياح حين رأى سيّارة أجرة تتوقّف أمام البيت وتترجّل منها هدى ،التفت إلى والدته بعد أن أعاد الستارة إلى مكانها وهتف :
_الحمد لله لقد عادت يا أمّي !
مدّدت هدى رجليها أمامها وأحنت رأسها على صدرها بحثا عن الدفء في ذلك الرواق من المشفى،السكون يعم الجناح بأكمله،والهدوء يخيّم على جنباته..
الساعة تقارب الثامنة صباحا وهذا هو موعد عمل بديعة،بعد يوم من التقصّي والبحث لم تعرف هدى أي معومات تُذكر فبديعة أو بالأحرى رحمة تعمل منذ شهور بالمشفى،وتقطن على بعد شارعين فقط من مقرّ عملها..
لم تكن هدى بحاجة إلى أكثر من ورقة ماليّة ليرتّب لها أحد حرّاس المشفى اللقاء،قبل أن يقفل باب المصعد أوصاها بأن تقول أنّها أمّ لخدّيج يرقد هناك وتريد الاطمئنان على حالته من طبيبه..
صوت أقدام قادمة من الأسفل جعلها تنتبه بشكل جيد وترهف سمعها،لكن الأقدام دخلت رواقا آخر،وبديعة لابد لها من المرور من نفس الرّواق كما أكّد الحارس..
ذلك الصمت المطبق أغرى هدى بإغفاءة قصيرة،أغلقت عينها للحظات قليلة وفتحتهما بغتة على بنطال أسود واسع وكنزة صوفية طويلة خضراء وذراعا تتدلّى منها حقيبة يد سوداء،رفعت رأسها قليلا لترى بديعة أمامها مباشرة تنظر إليها بعبوس وانزعاج واضحين..
انتفضت هدى كمن لدغتها عقرب وهتفت :
_بديعة !
قفزت هدى من مكانها لتمسك بيد بديعة التي حاولت التملّص منها ،وصاحت :
_لن تختفي ثانية قبل أن تخبريني بكلّ شيء !
صرخت بديعة في وجهها بصوت مكتوم :
_صه ..ليس في مصلحتك هذا الصراخ ،ولا في مصلحتي ،،لديكِ خمس دقائق قبل أن أدخل إلى الجناح وأباشر عملي..
عقدت هدى حاجبيها وقالت بغضب :
_لماذا خدعتِني بتلك الأكذوبة،ابني لم تأخذه تلك السيّدة،وإسمك لماذا ادعيتِ بغيره،وذلك الولد ابن من ؟ ..وابني أنا أين هو؟
نزعت بديعة يدها من قبضة هدى وأجابت بحدة :
_أسئلتكِ كثيرة ،وبعضها لا يهمّكِ في شيء !
تراجعت هدى عن إلحاحها وقالت بلهجة أقرب إلى الرّجاء :
_حسنٌ لن أتدخّل في شؤونك،إنّما أجيبيني سيّدتي أرجوكِ،،الولد أقصد ابني هل هو بخير ؟
تنهدتْ بديعة بشيء من العصبيّة وقالت :
_نعم بخير،وأشكّ أنّه بإمكانكِ انتزاعه من حضن الأسرة التي ربّته !
شعرت هدى بالدوار،لكنّها سرعان ما تماسكت وقالت باستعطاف :
_العنوان،أريد فقط العنوان وسأبذل قصارى جهدي لاستعادته !
نظرت بديعة إلى ساعتها بفتور وقالت :
_عودي غدا وسأدلّكِ على العنوان،لقد تأخرتُ على عملي !
أمسكت هدى بيدها وتضرّعت :
_أرجوكِ لا يمكنني التزحزح من هنا قبل أن أعرف عنوان ابني..
صاحت بديعة بغيظ :
_أرجوكِ أنتِ،هناك ترتيبات يجب أن أجريها أوّلا،هل تظنّين أنّ الأمر بغاية اليسر هكذا؟ ثم لا داعي للخوف لأنّ مستقبلي المهني صار على المحكّ بسببك..
قاطعتها هدى باستخفاف :
_ألم يكن في غاية اليسر في المرّة الاولى،،فقط ساعديني على استرداده..وسأمنحكِ ماتريدين،
امتقع وجه بديعة وردّت بصرامة :
_تلك غلطة لن أكرّرها أبدا،عودي غدا وسأدلّكِ على العنوان،والباقي ليس من شأني أبدا !
تراجعت هدى إلى الوراء وغمغمت باستسلام :
_حسنا سآنتظركِ غدا سيّدتي في مثل هذا الوقت .
اتجهت بديعة صوب باب الجناح، وصدى خطواتها الغاضبة يتردّد في الرواق،ركضت هدى وراءها وسألتها
_والولد،أقصد الذي منحتني إيّاه بدل ابني الحقيقي،ابن من ؟ لأني أفكّر في إعادته إلى أمّه !
أجابتها بديعة باستهزاء دون أن تلتفت إليها :
_افعلي به ما شئت فهو متخلّى عنه ولا أحد سيسال عنه..!
صاحت هدى بشيء من التردّد :
_بديعة ! أنتِ لن تختفي ثانية صحيح ؟
توقّفت بديعة عن المشي واقتربت من هدى وقالت بغيظ :
_رحمة هذا هو إسمي،لا تكوني لجوجة إن أردتِ استعادة ابنك حقّا..
تمتمت هدى باستسلام :
_حسنٌ ..
تنفّست هدى الصّعداء وهي تعبر بوّابة المشفى بخطوات سريعة،يحذوها الأمل المنير،ويعلو وجهها الجميل ابتسامة صافية،هتف صوت سعيد من قعر أعماقها..
_ها أنتِ قد صرتِ قاب قوسين أو أدنى من إعادة الصغير إلى أحضانك !
قادت سيارتها عائدة إلى البيت بروحٍ متفائلة توشك أن تطير فوق الغمام بخفّة ورشاقة، لكن في ركن الأمل يقبع بعضٌ من الألم،إن حصلت هدى على طفلها ستخسر أسعد وحماتها،هذه الحياة لا تمنحها شيئا إلا وتكون قد أشارت إلى شيء آخر واعتزمت أخذه بدلا عمّا منحتها إيّاه..
حين انتزعت منها أمها مبكّرا منحتها أمّ هاني الودودة وحين أهدتها أسعد عادت لاسترجاع أم هاني،والأمر واضح هذه المرّة ستحرمها الحياة حبّ أسعد وحنانه،فهل احتضانها لصغيرها سيعوّضها حبّ أسعد ؟
دلفت هدى إلى المصعد بخطوات رشيقة وحشرت نفسها في زوايته بعيدا عن سيّدة أنيقة تتحدث على الهاتف،وبالقرب منها تقف طفلة جميلة في ربيعها الخامس رمقت هدى بنظرات فضوليّة،ابتسمت هدى للطفلة الصغيرة التي عبست وجذبت كمّ والدتها قائلة :
_ماما ،السيّدة العابسة تبتسم !
سمعتها هدى لكنّها على جمود ملامحها وساعدها على ذلك ارتداؤها للنظارات السوداء الكبيرة،في غمرة انشغال أمّها بالحديث على الهاتف،اقتربت الطفلة من هدى وسألتها ببراءة :
_هل البيبي بخير ؟
هزّت كتفيها واستطردت :
_التقيته صباح أمس لكنّه لم يبتسم لي لأنّه كان يصرخ متألّما من حقنة التطعيم !
ابتسمت هدى بصمت وحرّكت رأسها بالإيجاب،رفعت الطفلة حاجبيها متسائلة :
_هل أكرم ابنكِ أم ابن السيّدة الكبيرة ؟
انتبهت أمّها إلى عبارتها تلك وهي تعيد الهاتف إلى حقيبتها ،فنهرتها بقسوة بعدما حدجت هدى بنظرات متعالية..
توقّف المصعد وأسرعت هدى تغادره،فوجئت بباب الشقّة مفتوحا، والأرضيّة مبلّلة ورائحة المنظفات تعمّ المكان،أطلقت الخادمة كريمة ضحكة مجلجلة وهي تخرج من المطبخ،لكنّ ملامحها سرعان ما اكتست بطابع الجدّيّة حين رأت هدى تتّجه إلى غرفتها فبادرت بالقول :
_حمدا لله على سلامتك سيّدتي،مبارك عيد ميلاد أكرم..
ظهر شبح ابتسامة على وجه هدى وتابعت سيرها،لكنّ كريمة استرسلت في كلامها :
_أنا سعيدة باقتراب بلوغ أكرم سنته الأولى،أريد أن أحضر ابني ليحتفل مع أكرم،هل من مانع سيّدتي؟
ردّت هدى بتجهّم دون أن تلتفت إليها :
_لا مانع أبدا ويمكنكِ دعوة أطفال الحارة أيضا !
لوت كريمة شفتيها بامتعاض خفية وصاحت :
_أنا ذاهبة إلى السوق سيّدتي كنزة !
ارتمت هدى فوق السرير بعدما غيّرت ملابسها، أطلّت حماتها كنزة برأسها بعد أن طرقت الباب وقالت بلطف :
_الحمد لله أنّكِ عدت باكرا،كريمة ستهتم بتنظيف البهو، لقد دعوت بعضا من أقاربنا وكذلك فعل أسعد،سنحتفل بعيد ميلاد أكرم بعد يومين !
امتقع وجه هدى وقالت بغضب :
_احتفلوا كما تشاؤون بدوني،لأنّي سأترك هذا البيت..
قامت بسرعة وانحنت لتجذب حقيبتها الفارغة وبدأت تحشوها بالملابس أمام ناظر حماتها التي أغلقت الباب بهدوء وجلست على حافة السرير وقالت بهدوء :
_يا ابنتي الولد بخير،عليكِ تقبّل الأمر،أريدكِ أن تفتحي له قلبكِ قبل ذراعيك،أريد أن أرى السعادة تشعّ في عينيكِ!
عقدت هدى ساعديها أمامها وقالت بعناد :
_وأنا لا أريد كلّ هذا ويزعجني حبّك لي،لأني فعلا لا أستحقه،لماذا لستِ كالحموات،لماذا لا تحرضين عليّ ابنك وتلحّين عليه أن يطلقني ؟ فأنا لم أمنحكم سوى بذورا ملعونة وعانيتم معي الشيء الكثير،لستم مجبرين على تحمّل كل هذا!
أطرقت حماتها برأسها أرضا وتمتمت :
_ نحن نحبّك حقّا يا ابنتي ،وأدرك جيّدا حجم ألمكِ ..
صمتت لوهلة ثمّ أدرفتْ :
_لأنني السّبب فيما عانيته يا ابنتي..
اقتربت هدى من حماتها وسألتها بشك :
_ماذا تقصدين ؟
اغرورقت عيني كنزة وسالت دموعها بغزارة وقالت بصوتٍ مخنوق :
_البذور الملعونة ..أنا أيضا عانيت من هذا الأمر وكذلك جدّتي لوالدي،لذلك ليس لدى أسعد إخوة..
للحظات شعرت هدى أنه سيغمى عليها،تهالكت فوق أريكة بجانبها وقالت بذهول :
_المرض وراثي،وأنا لا أعلم شيئا،تركتموني كلّ هذا الوقت أتخبّط في عذاب الضمير والألم..
جفّفت كنزة دموعها بطرف قفطانها وأحنت رأسها وغمغت :
_في البداية لم أحبّك أبدا،لكني رضخت لأجل سعادة ابني ورضيتُ بكِ زوجة له،خاصّة أنّكِ لم تمانعي في أن نعيش جميعا تحت سقف واحد..
ازدردت كنزة ريقها بصعوبة واستطردت :
_كنت سعيدة بحملكِ وبكوني سأصبح جدّة وسنهدم جدار الوحدة الذي عزلنا أنا وابني طويلا،لكنّ الصغير رحل قبل أن أصدّق أنّني أصبحتُ جدة..لكن بحجم خيبة أملي بحجم دعواتي وتضرعي لله أن يشفق على حالك..
توقّفت للحظة وتابعت :
والحمد لله أنّه استجاب لدعواتي أخيرا وعوّضنا بأكرم العزيز قرّة أعيننا..
قهقه صوت عالٍ من أعماق هدى بسخرية ،لكنّها صمّت أذنيها عن سماعه،ثم هزّت رأسها إلى سقف الحجرة وقالت بمرارة :
_أنتِ وابنكِ لستما أبدا كما ظننت،طوال تلك السنوات كنتما تتلذذان بألمي ولم يجرؤ أحدكما على إخباري بالحقيقة ،أتدرين كم من الأطباء سألوني عن كون المشكلة وراثية ونفيت الأمر بشدّة !
_سامحيني يا ابنتي،لقد خشي أسعد أن تتركيه فتوسّل إليّ حتى لا أخبركِ !
استأنفت هدى حزم أمتعتها وقالت بلهجة ساخرة :
_أتدرين يا حماتي العزيزة،لقد أنقذِتني من عذاب أسود كان يطوف بي،الآن ما عدتما تعنيان لي شيئا لا أنتِ ولا ابنكِ..!
حاولت حماتها تهدئتها لكنّ هدى تراجعت إلى الوراء وصاحت بجفاء :
_أرجوكِ سيدتي لا تلمسيني أبدا !
غادرت حماتها الغرفة بحزن وأقفلت الباب بهدوء بينما انخرطت هدى في نوبة بكاء حارّ،رمت الحقيبة فوق الأرض وارتمت فوق سريرها باكية..
_آنستي الجميلة،إسألي هدى إن كان بإمكانها الزواج بنا أنا وأمي !
رفعت هدى رأسها مبتسمة ،وضعت أدوات الهندسة جانبا وأمسكت بباقة الورد الحمراء التي غطى بها أسعد وجهها،بينما تضرّجت وجنتيها بدماء الخجل..
حين غادرت هدى مكتبها تعانق باقة الورد تلك،تغامزن زميلاتها عليها بحسد وتنهدت إحداهنّ بحسرة قائلة :
_الحظّ لا يطرق سوى باب المتعجرفات مثل هدى،ألا يكفيها أنّ المدير يوليها عناية خاصة بسبب قرابته لها،بل خطفت أفضل المهندسين وأطيبهم، ذلك الودود الوسيم أسعد..
صاح والدها بحزم مفتعل :
_سأسأل عنه لأرى إن كان من عائلة عريقة أم لا !
لكنّ صمت هدى جعله يوقن أنّها تحبه فرضي بكون أسعد من عائلة أمازيغية ميسورة وهذا في نظره بالكاد يكفي ..
سمعت هدى طرقاتٍ هادئة على باب غرفتها لكنّها لم تنبس بكلمة..
فُتح الباب بهدوء،ودخل أسعد شاحب الوجه،اقترب من هدى التي أشاحت بوجهها واستدارت إلى الحائط،جلس على مقربة منها وهمس :
_لم آتِ لأعتذر،لكنّي أريدكٍ أن تعلمي أنّي فقط لم أستطع تحمّل فكرة أن أخسرك لأي سبب ! أعرف أني مخطئ وأمّي كذلك،لكّننا أيضا لا ذنب لنا في أمر الوراثة تلك،كنت طفلا صغيرا وشعرتُ بأنّ شيئا ما ليس على ما يرام،كانت أمّي لا تفارقني ولا للحظة،حتى أصبحتُ محطّ سخرية أقراني،وعرفت بعد ذلك السبب الذي جعلها مهووسة بي..
لم تحرّك هدى ساكنا لكنّ أسعد استرسل قائلا :
_ذات يومٍ زارتنا عمّتي وكانت تناديني تعال أيّها الولد الخامس !
فابتسم أبي وأخبرني بأني الولد الوحيد الذي نجى من براثن الموت بأعجوبة...
كانت والدتي تكره عمّتي تلك وعرفتُ بعد ذلك أن أهله صمّموا على طلاقها منه،لكنّ أبي رحمه الله رحل من القرية واستقرّ في بلدة أخرى..
زفرت هدى بقوّة وقالت ببرود :
_أي شيء مهما بلغت قسوته وألمه يكمن داخله شيئا إيجابيا،أنتَ لا تدري أنّك اختزلت الكثير من حيرتي ،بل وجعلتني لا آبه أبدا للعواقب..
أطلّت نظرة تساؤل من عيني أسعد الواسعتين لكنّه آثر الصمت وشجّع هدى بإيماءة من رأسه..
فقالت بحزم :
_كذلك لديّ سرّ أدهى من سرّكما أنت وأمّك !
جذب أسعد يدها بحنان وقال :
_ما هو سرّك حبيبتي ؟
وقفت هدى وبدأت تذرع الغرفة جيئة وذهابا وقالت :
_لستما ملاكين أنتَ وأمّك وأنا الأخرى لست كما أبدو لكما..باختصار ذلك الولد أكرم ليس ابني !
قهقه أسعد ضاحكا وقال:
_كنتُ أعرفُ أنكِ لا تحبينه حبيبتي ولا تعتبرينه ابنكِ،لقد أخبرتني طبيبتك النفسية بذلك،قالت إن نجا هذا الولد سيكون لدى زوجتك ردّ فعل عكسي..ستعتقد أنّ الولد ليس ابنها..!
فركت هدى يديها بتوتر وصرخت بغضب :
_لكنّ الولد حقّا ليس ابني..!
أمسك أسعد هدى من كتفيها وأجلسها على السّرير،وقال بحنان بالغ :
_لقد أرهقتِ نفسك كثيرا حبيبتي هذا الأسبوع لذلك أريدكِ أن تنعمي بقسط من الرّاحة !
نظرت إليه بذهول وهو يغلق السّتائر ويطفئ نور الغرفة ويقفل الباب وراءه بهدوء..
يتبع
22/05/2016
التصنيف : |
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات الجريدة يحيى خضر روائع الشعراءضع ابداعك هنايحيى خضر زيارة صفحة الخصوصية
نسخ الرابط
نسخ للمواقع
التعليقات
0 التعليقات

احدث المواضيع

3efrit blogger 

عدد زوارالجريدة

اضغط اعجبني

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في كل الوقت

احدث المواضيع

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في أخر 30 يومًا

ارشيف الجريدة

جميع الحقوق محفوظة © يحيى خضر
تصميم و تطوير : يحيى خضر
يحيى خضر © 2016