روايـة ( بـُذورٌ مَــلْعُــونَــة) (2) ::: للكاتبة المبدعة ؛ حنين فيروز ؛؛؛

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

روايـة__________ بـُذورٌ مَــلْعُــونَــة (2)
الهدوء يعمّ الشارع إلى حدّ ما ،وأعمدة النّور المتراصّة على جانبي الطّريق تبدو وكأنّها صفوف عساكر بعضها أطول من بعض،أنوارها تزيّن عتمة الليل كعقيق أبيض منثور فوق فستان أسود جميل..
بدتْ هدى هادئة ومرتاحة بعض الشيء، خلف مقود سيّارتها السوداء، كأنّ حملا انزاح عن كتفيها،بالرّغم من جفاء الضابط وعدم اتّساع صدره لها إلا أنها صارت أفضل من السابق..
على الأقلّ أصبحت تطمع في مصالحة بعضٍ من النوم لعيونها السّاهرة، مؤكّدٌ أنّها ستجد حماتها في انتظارها وعشرات الأسئلة توشك على الانهمار منها،لكنّها ستشيح بوجهها عنها وستتوجّه رأسا إلى غرفتها..
حماتها .. ذلك الضّوء المنير الذي بزغ من بينِ ثنايا دجى العذاب ليشدّ أزرها بأقصى ما يمكن،اليد الحنونة الّتي تمتدّ لتربّت بحنان صادق وعطف حقيقي بعد صفعات الموت القاسية..
نقرات على زجاج سيارتها السّوداء جعلتها تنتفض،ظهر وجهٌ صغير بشكل مفاجئ يملؤه الغبار الذي شّكل ما يشبه الخريطة عليه،وشعرٌ أشعث لم يعرف المشط ولا الماء طريقا إليه منذ مدة،وابتسامة واسعة تسبقها يد تجاوزت نافذة السيّارة لتصل إليها،لكنّ الوجه تضاعف ثلاث مرّات،والأيدي صاروا ستّة..وارتفعوا عاليا يهتفون بالدعاء..
شعرت بالذعر حين نقرتْ يدٌ كبيرة زجاج النافذة الأخرى،سارعتْ المرأة للدّوران حول السيّارة وأزاحت الأولاد من أمامها وأطلّت برأسها من النافذة وقالت باستعطاف :
_ساعدينا سيّدتي،هؤلاء أولادي،تخلّى عنّا والدهم و...
بالكادِ لمحتْ هدى وجه المرأة المتسوّلة،كانت في عقدها الثالث،سمراء الوجه ترتدي جلبابا واسعا وتمسك في يدها كيسا بلاستيكيّا..
ضغطت هدى على زرّ الإغلاق وأطلقت لسيّارتها العنان،تركتهم وراءها ينظرون إليها بعبوس وخيبة أمل ..
أطفالٌ هنا وأطفال هناك،أينما مرّت تجدهم ،مثل نباتات القرّاص.. تنمو في كلّ مكان ..حتى على أرصفة الشوارع ..إلاّ أرضها الخصبة،لم ينم عليها غصن واحد..
_هذه المرّة ستكون الأمور بخير يا ابنتي !
هتفتْ حماتها بكلّ ثقة وهي تحمل الرضيع بكلّ حنان وأردفت بحماس :
_أنتَ الولد الثالث الذي سيتحدى الموت،أنتَ حفيدي القويّ الذي سيحارب كجندي باسل !
في تلك اللّيلة بعد عودتها من المشفى بعد ولادتها بيومين،كانت هدى تراقب حماتها بعيون تائهة،تتنقّل بفكرها بين بحر الهواجس وينبوع الأمل الصغير، فيطول الليل ويتمدّد ولا يعرف جفنها طعم النّوم..
والليل له حكايات طويلة يسردُها الألم،فكلّ ليلة تركل النّهار الذي يليها وتمسك في يد الليلة الأخرى..لتتّحد جيوش الفكر كخليّة نحل نشطة،فيسهر عقلها ويأبى التقاط أنفاسه ولو للحظة،ويسعى لامتصاص الخوف ومجابهة الواقع كيفما كان،ومحاولة نسيان ما قد مضى من آلام..
علا صراخ الرضيع فجأة وأتت حماتها تحمله وتضعه في حجرها ريثما تعود من المطبخ،لكنّ هدى سرعان ما حملته وأعادته إليها كمن يزيح خطرا عن حياته وصرخت بحدة :
_خذيه بعيدا عنّي لن أرضعه أبدا،من الآن أنا أعتبره ميّتا..
حملته حماتها واتّجهت نحو المطبخ وهي تغمغم بحزن :
_لا حول ولا قوّة إلا بالله..
حماتُها وزوجها لا يستبقان الأحداث مثلها،كلّ شيء لديهما بخير،ورغم فقدانها الولد البكر ثمّ البنت إلاّ أنّهما مازالا متفائلين،ويتصرّفان بشكل طبيعي وكأنّ شيئا لم يكن،حتّى أنّهما يختلفان على تسمية المولود الجديد،بعد أن تركت لهما حرّية الاختيار..
ايّ فائدة تُرجى من اختيار أسماء سيشعّ نجمها في السّماء ثمّ لا يلبث أن يأفل سريعا..؟
حتّى لو أقفلت باب الغرفة ودسّت رأسها تحت الوسادة إلا أنّها تسمع أصواتهما وهما يهدهدان الصّغير ويناديانه بإسمه..
وهذا يصيبها بالجنون..بل ويكاد يفقدها صوابها،فهي تخاف أن تنتقل إليها العدوى..عدوى الأمل فتحبّه هي الأخرى وتتشبّت بالبصيص وتحاول أن تعيش بلا خوف أو رعب من فقدان الصغير،لكنّها لا تستطيع أن تصمّ آذانها عن قهقهات مارد الخوف الذي يسكن أعماقها ويصرخ في كل حين ليذكّرها بموعدها مع العذاب والألم..تخشى أن تغلق عينيها وتتجاهل الإعصار القادم فتنسى كلّ ما فات وتحلم بأنّ الرضيع سينجو هذه المرة..
فيهوي بها الأمل الخادع في أتون العذاب للمرّة الثّالثة..لقد احتارت في أمر هذين الاثنين، زوجها وحماتها وتساءلت..
"من أين لهما بهذا الصبر،مماذا يستمدّان هذا الأمل،لماذا لم يفلح اليأس في هزيمة إيمانهما" ؟
ثلاثة أسابيع من الترقّب والخوف،مرّت كأنها ثلاث سنوات..وأخيرا شعرت هدى بيد تربّتُ على كتفها..
غمغمتْ بصوت مبحوح :
_هل لحق بأخويه؟
تنهّدت حماتها بحزن :
_مشيئة الله يا ابنتي..!
غطّت هدى رأسها باللحاف وقالت ببرود :
_اتصلي بأسعد ليسعد بهذا الخبر الجميل،حاولتُ تحذيركم من مغبّة التعلّق ببذور ملعونة لكنّكم لا تفقهون لغةً إسمها الحقيقة !
توقّفت هدى أمام مدخل العمارة،هرول الحارس إليها وناولته مفتاح السيّارة ليعيدها إلى القبو..
استقلّت المصعد وفتحت شقّتها الفاخرة ،وتجاوزت حماتها بعد أن تفوّهت بالتحية،وتابعت طريقها نحو غرفتها،رمت حقيبتها فوق السرير الوثير،وشرعت في تغيير ملابسها..
تناهى إلى سمعها صوت الصغير يبكي بحرقة،قطّبت حاجبيها وغمغمت بضيق :
_قريبا سأعيدك إلى حيث تنتمي أيها المزعج..!
عادت لتعبس من جديد،حين سمعت صوت أسعد يلاعب صغيره ويقهقه ضاحكا،لقد اعتاد أن يقصد غرفته أولا ليحمله بين ذراعيه ويحدّثه بصوتٍ عال ويعدّد خططه المستقبيلة برفقته..
ما أسهل التّلاعب بالواقع،فزوجها وحماتها يقتفيان أثر الأمل حتى لو كان مزيّفا،لمرّات عديدة تساءلت هدى بكلّ حيرة
"ألم يتوقّفا للحظة ويفكّران كيف لهذا الطفل بالذات النّجاة من براثن الموت،،حتّى الشّبه لا يشبه أحدا"
فهي جميلة وبشرتها بيضاء وأسعد كذلك وسيم عيناه واسعتان ويشبه والدته في بشرتها الناصعة البياض المشرّبة بالحمرة الخفيفة،،وهذا الولد اختلافه واضح وضوح الشمس..
بشرته سمراء،عيناه ضيّقتين،جبهته عريضة وله أنفٌ كبير وشعره أسود فاحم،،حتّى الأعمى يمكنه تحسّس ملامحه ومعرفة الأمر..إلا زوجها وحماتها،،فعيونهما ترى ما يريدان رؤيته فقط ولا شيء غير ذلك..
تناهى إلى سمع هدى وهي تعيد ملابسها إلى الدولاب صوت حماتها وهي تغنّي للولد أغانيها الجميلة بلغتها الامازيغيّة الّتي لا تفقه هي شيئا منها،لولاها لكانت حياتها أسوأ،فهي من بسطت ذراعيها وحملت زهورا محكوم عليها بالإعدام،هي من اعتنت بهم جميعا حتى آخر نفس،وحتى هذا الغريب الذي أسمته "أكرم " لم تدّخر جهدا للعناية به، تظنّه حفيدها الذي نجح في هزيمة الموت..
جدّة حنون رائعة،لو أنه كانت لها جدّة مثلها!
يد الموت امتدّت على حين غرّة واختطفت والدتها في سنّ مبكّرة،وبذلك رُدِم نبع الحنان قبل حتّى أن تذكر أنها نهلت منه ،ماذا تبقى غير الأب المشغول على طول الخطّ ومربّيتها المتحفّظة أمّ هاني ؟ فهي لم تكن يوما ضمن حساباته وأرقامه..وكان بينها وبين أمّ هاني حدود ،لا والدها سمح باختراقها ولا مربّيتها سمحتْ بذلك ..
حين التقت أسعد شعرتْ أنّه نوع آخر من الرّجال لا يشبه والدها أبدا،كل شيء فيه حقيقيّ وصادق،هدوؤه واتزانه يفوقان عمره بعقود،صبور إلى أقصى حدّ،لم تنجح صفعات الموت المتتالية في زعزعة إيمانه بخلافها هي..
كادت تفقد صوابها عدة مرات، لولا تلك العيون الأربعة التي تراقب..تعطف.. وتمسح عبراتها بكلّ صبر..والأربعة أذرع التي تمتدّ لتعانق.. تربّت بحنان..وتمنحها الطمأنينة والأمان..
أحيانا تضيق ذرعا بهما معا،بل وتصرخ في وجهيهما بأنها لا تستحقّ منهما كلّ ذلك الحبّ،وتضع يدها على صدرها وتصيح بأعلى صوتها والدموع تخنق صوتها الغاضب :
_ماذا منحتكما أنا غير بذور ملعونة،ما إن تستنشق هواء الحياة حتى تلفظه بكل عناد وتصميم ؟
لكنّهما لا يأبهان لثوراتها تلك،بل يتناوبان في احتضانها واحتواء عصبيتها وغضبها..
يا لطيببوتهما،محظوظة هي من دون شكّ بهذين القلبين الودودين،آه فقط لو تستطيع إهداءهما فرحة حقيقية..!
أخرجت هاتفها من الحقيبة،وشغّلته،لم يتوقف للحظات عن الأزيز،رسائل تلو الأخرى،أغلبها لأسعد يعبّر عن قلقه لغيابها،لكن هذا الرقم الأخير غريب وليس مدوّنا على هاتفها،فتحت الرسالة بفتور قبل أن ترمي الهاتف إلى جانبها
"السيّدة عادت إلى شقتها هذا المساء"
فكّرت هدى باستغراب ..
"رسالة غريبة من رقم مجهول.. سيدة عادت إلى شقّتها وما شأني أنا" ؟
بدأت الأجراس والطبول في القرع في رأسها،فقفزت من فراشها..وصاح صوتّ داخلها :
_إنّه صاحب الكشك الذي أوصيتِه بمراقبة تلك السيّدة.. أيّتها البلهاء..!
حملت هاتفها بسرعة لتتصل به،لكنّ رأسا أطلّ من الباب تسبقه ذراعين تحملان صينية الطّعام..وصوتا حنونا يهتف برقّة :
_مساء الخير يا حلوتي..!

(يتبع)

حنين فيروز
20/04/2016
التصنيف : |
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات الجريدة يحيى خضر روائع الشعراءضع ابداعك هنايحيى خضر زيارة صفحة الخصوصية
نسخ الرابط
نسخ للمواقع
التعليقات
0 التعليقات

احدث المواضيع

3efrit blogger 

عدد زوارالجريدة

اضغط اعجبني

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في كل الوقت

احدث المواضيع

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في أخر 30 يومًا

ارشيف الجريدة

جميع الحقوق محفوظة © يحيى خضر
تصميم و تطوير : يحيى خضر
يحيى خضر © 2016