رواية// بُـذورٌ مـَلـعُـونَـة (1)::: حنين فيروز

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
رواية__________ بُـذورٌ مـَلـعُـونَـة (1)

ساعتان من الانتظار في ذلك الرّواق بدت لهدى كأنها دهر، يبدو أنّها ليلة ليلاء ببرودتها وبازدحام المركز، تطلّعتْ إلى الوجوه المارّة بجانبها بخوف وانزعاج،أنماط مختلفة من البشر،وجوه عابسة، وأخرى خائفة،مراهقون ذوو قصّات شعر غريبة تربطهم برجال الشرطة الأصفاد، أمهات قلقات، آباء يذرعون المكان جيئة وذهابا،يتساءلون عن مصير أولادهم ولا من مجيب سوى نظرات شزر وغضب منالموظّف القابع خلف الشبّاك..
تململت في جلستها قليلا،وفركت أصابعها الباردة وأدخلتها في جيب معطفها الأسود الطويل،،ودّت لو غادرت المكان،لكنّ عيني الشرطيّ الواقف بجانبها الصارمتين أرهبتاها كثيرا..
أشار إليها بالدخول بغتة،دخلت المكتب بخطوات متعثرة،بدا الضابط مخيفا إلى حدّ ما بصوته الجهوري ولهجته الحادة على الهاتف،اختلست النظر إليه وهو يرغي ويزبد،وبدأت معدتها في التقلص،كان الضابط ضخم البنية ،أصلع الرأس،ذو نظرات ثاقبة..
في الجانب الأيسر من الغرفة يستقر شرطيّ شابّ خلف مكتب صغير،،ينقر بمهارة على أزرار الحاسوب..
_أيّ خدمة سيدتي؟
جفلت هدى حين باغتها الضابط بالسؤال وهو يعيد السماعة إلى مكانها..
امتقع وجهها،قالت بهدوء مفتعل :
_أودّ استرجاع طفلي من السيدة التي تقطن في هذا العنوان..
ناولتْ الضابط قصاصة صغيرة،رفع حاجبيه وتفرّس فيها للحظة،وقال ببطء :
_هل تتّهمينها باختطاف طفلكِ؟
ارتبكت هدى وردّت:
_في الحقيقة أنا من منحها إيّاه دون علمها !
توقّف الشرطي الشاب عن العمل والتقت عيناه بعيني رئيسه الذي هتف بنفاذ صبر :
_هاتِ بطاقتك الشخصية !
أسرعتْ هدى بإخراجها من حقيبتها الصغيرة ووضعتها أمام الضابط الذي بدأ يقرؤها بتمعن وبصوتٍ مسموع :
_هدى عرفان ،36 سنة،مهندسة،العنوان شارع..
توقف فجأة وراقب اضطرابها،فكّر ،لا تبدو بخير هذه الشابة،معطفها الأسود وإيشاربها البنّي أضافا إلى عمرها سنوات أخرى،عيناها العسليّتان ذابلتين،لا أثر للزّينة على وجهها الجميل،وكأنّها خرجت توّا من مأتم ما..منذ دخولها المكتب لم تتوقف عن طرقعة أصابعها الرّقيقة ذات اللون العاجي..
قال فجأة بلهجة حازمة :
_أريد القصّة بأكملها لنرى إلى أين سنصل معك في هذا اليوم المضنيّ !
أومأت برأسها موافقة وازدردت لعابها بصعوبة :
_قبل سنوات كنتُ أضع نصب عيني دراستي وبعدها طموحي المهني،لكنّي التقيتُ بزوجي المهندس أسعد،ومن تمّ اتخذت حياتي منعطفا آخر،لأوّل مرّة أعيش الدفء العائليّ برفقته ورفقة والدته الطّيّبة،لم يكن ينقصنا سوى دزينة من الأطفال على حدّ قول زوجي..
ابتسمتْ بسخريّة وتابعت حديثها :
_المشكلة أنّ كلينا كبر وحيدا بدون إخوة،لذلك أردنا أن ننعم بما افتقدناه في الصغر،لكنّ القدر عاندنا بشكل غريب،لم أكن عاقرا،لكني كنت أسوأ من ذلك،بطني تطرح ثمارا يانعة تلاحقها لعنة الموت،ما إن نكاد نسعد باحتضانهم ،حتى يصيروا مجرد هشيم تذروه الرياح ..
قاطعها الضابط عابسا :
_تقصدين أنّ أولادك يموتون ؟
أدارت الخاتم البلاتيني في إصبعها وقالت :
_تماما سيدي،سبع سنوات طوال حصيلتها ولدين وبنت أكثرهم حظّاً جاوز الشهر..
زفرت بقوة وتابعت بضيق:
_لا أرغب في إضاعة وقتك في سرد معاناتي ،كما يقولون ..يسهلُ قول الكلمات..لكن يصعبُ عيشها حقيقةََ..
انهمك الضابط في الردّ على مكالمة هاتفية،بينما شردت هدى..
أكياسٌ وعلبٌ في شتّى الأحجام تملأ أرضية الغرفة الفسيحة، وهي تقف هناك، تتفنّن في تزيين جدرانها،لكي ينثر الصغير القادم البهجة في جنباتها،لن يتوان والده عن تدليله وستحذّره من عاقبة إفساد الولد..
وفي الأخير ما مِن ولد،لقد تركته هناك،بعد أن لفظ أنفاسه بعد ساعاتٍ من مولده..
حملٌ آخر نجح في التخفيف من حزنها لكنّه جعلها تحذر من مغبّة الفرح،هذه المرّة ما من استعدادات،حتى حين عرفت أنها بنت،وما المشكلة في غرفة لونها أزرق بدل الوردي؟ 
المهمّ أن تحلّ البهجة معها أينما حلّت، المهمّ أن ترسم البسمة على شفاهها..وكأنّها فقط أطلّت برأسها على الحياة ..فقد داعبت الرضيعة الجميلة المخدّة ببشرتها الرقيقة وفاح عبير عطرها الطفولي في الغرفة،لكن لأسبوع فقط،،ثم نامت إلى الأبد..
أفاقتْ من شرودها حين أعاد الضابط السّمّاعة إلى مكانها وصاح:
_ وبعد..؟
أطلّت نظرات تائهة حزينة من عينيها العسليّتين ثم قالت :
_ حملتُ للمرّة الرابعة وبدون أي تخطيط مني،لأني كرهتُ هزائمي المتتالية،وعجزت عن تحمّل المزيد من خيبات الأمل، والأطباء يفكّرون ..يحللون ..ويقترحون ، لكنهم لم ينجحوا في الوفاء بوعدهم..إلاّ أنّ جملةً نطقت بها حماتي جعلتني أقترف ما قد يبدو جرما..
تنهّدت بعمق وواصلت الحديث بينما رفع الضابط برأسه وانتبه بشكل جيد لجملتها تلك :
_قالت..مشكلتك يا ابنتي قديمة،في قريتي كانت النّساء يعتمدن عدة طرق ليتجنّبن تكرار موت أولادهنّ، كتركهنّ لهنّ تحت رعاية أمّهات بديلات حتّى بلوغهم السّنة الاولى على الأقلّ،ناهيك عن زيارتهنّ لأضرحة أولياء الله الصّالحين.. 
تسمرّت نظراته على حركة يديها وهي تدير خاتمها الثمين بعصبية ،ثم أشار لها بتتمة الحديث..
_اخترتُ أن أنجب في مشفى حكومي حتى تكون مهمّتي يسيرة،الخلاصة أنّي غادرتُ المشفى وبين يديّ رضيعا آخر،وعنوان السيدة التي ستحتضن طفلي دون علمها !
أمسك الضابط رأسه الأصلع بكلتا يديه وصرخ بغضب :
_ يا إلهي هذه تُعدّ جريمة !
شرعت هدى في قضم أضافرها وتمتمت بهدوء :
_ مستعدّةٌ لأيّ عقوبة،فقط أعيدوا إليّ ابني،أو أخبروني بأنّني لم أنجح في مراوغة الموت،وأنّهُ لحق به هناك..عند تلك السيدة..
علا صوتها فجأة وقالت باضطراب :
_أعترف أنني رميتُ وراء ظهري كل منطق وكل مبدأ حين أقدمتُ على هذا التصرف الأحمق،لكنّي أتيتُ لأنّي اكتفيتُ ..لا أحد يمكنه تخيّل ما مرّ بي،مشاعر متضاربة تعصف بي كل لحظة،أصبح قلبي مهروسا بين مطرقة الواجب وبين سندان الضمير،شعرت بأني عاجزة عن حبٌ ابني البديل ،الحقيقة أرحم كثيرا من التلاعب بالواقع..
قاطعها الضابط بانفعال:
_وهل عاش طفلك؟
أشرق وجه هدى على الفور وتهدج صوتها وهي تهتف بسرور :
_لقد تجاوز الشهرين من عمره..
سرعان ما عبست واستطردت :
_لكنّي لا أعلم عنه شيئا منذ قرابة العشر شهور..فالسيّدة أخذته وابنتيها الصغيرتين ورحلتْ ..ولم يظهر لها أثر منذ ذلك الحين ..
حكّ رأسه مفكّرا ثم سألها بلهجة حادة :
_من غيركِ يعلمُ بفعلتك هذه ؟
أجابت بهدى بثقة :
_لا أحد غيري يعلم شيئا، الإثنان يعتقدان أنّ الطفل ابنهما..أقصدُ زوجي وحماتي..
رنّ الهاتف بغتة ،رفع الضابط السمّاعة،مرّت دقيقتين من الإيماء برأسه مواقفا ثم قال :
_حسنا سيدي !
هبّ واقفا ثم أمر هدى بالانصراف قائلا :
_سنبذل قصارى جهدنا لاستعادة طفلك سيدتي !
اعترتها حيرة كبيرة واضطراب واضح واحتجّت :
_لكنّي لا زلت لم أوضح بعض الأمور..
ابتسم الضابط بسخرية مقاطعا إياها : 
_لا تقلقي.. نحن الشرطة وبإمكاننا معرفة كل شيء،مع السلامة سيدتي !

(يتبع)

حنين فيروز

13/04/2016
التصنيف : |
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات الجريدة يحيى خضر روائع الشعراءضع ابداعك هنايحيى خضر زيارة صفحة الخصوصية
نسخ الرابط
نسخ للمواقع
التعليقات
0 التعليقات

احدث المواضيع

3efrit blogger 

عدد زوارالجريدة

اضغط اعجبني

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في كل الوقت

احدث المواضيع

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في أخر 30 يومًا

ارشيف الجريدة

جميع الحقوق محفوظة © يحيى خضر
تصميم و تطوير : يحيى خضر
يحيى خضر © 2016