بيْنَ جمْرِ الصّقيعِ و جمْرِ اللّهَب // شعر: محمد علي الهاني - تونس

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

بيْنَ جمْرِ الصّقيعِ و جمْرِ اللّهَب // شعر: محمد علي الهاني - تونس

بيْنَ جمْرِ الصّقيعِ و جمْرِ اللّهَب
-----------------------------

أنتَ – يا قامةَ الرّيحِ في أوْجِها –
قمَرٌ في لهيبِ الدّماءِ تألَّقَ بين سماءَيْنِ:
أُولاهُما انْطفأتْ بالدُّخَانِ ،
وأُخراهُما انْطفأتْ بالشُّهُبْ.

***
أنتَ يا قامةَ الرّيحِ ...،
حُلْمُكَ يخْضَرُّ في باحَةِ الصَّدْرِ
عنْدَ الشُّروقِ وعنْدَ الغروبِ ،
وعنْدَ ازْدِحامِ العنادِلِ بالذّكرياتِ،
وعنْدَ ارْتحالِ الفراشةِ بين الرَّصاصةِ و اللُّغْمِ ،
عنْدَ اشْتعالِ الْمُخَيّمِ في عيْنِ لاَجِئَةٍ
فقدتْ أُمَّها في خريفِ الْمُنى وخريفِ الْغَضَبْ
أنتَ يا قامةَ الرّيحِ في أوْجِها 
قمَرٌ لِلَّظَى ينْتَسِبْ.

***
أنتَ يا قامةَ الرّيحِ 
حُلْمُكَ يُغْرِي الشُّموسَ بِأقمارِهِ
أنتَ يا طِفْلُ
حُلْمُكَ يُغْرِي الرّبيعَ بِأزهارِهِ
أنتَ يا طِفْلَُ 
حُلْمُكَ لاَ يَنْتَهِي
بِانْتِهاءِ الْقصِيدةِ في الْوَرَقَهْ
أنتَ يا طِفْلَُ 
حُلْمُكَ لاَ يَنْتَهِي
بِانْتِهاءِ الرّصاصةِ في الْحَدََقَهْ
أنتَ يا طِفْلَُ 
حُلْمُكَ لاَ يَنْتَهِي
بِانْتِهاءِ الْمسافةِ 
ما بيْنَ جمْرِ الصّقيعِ و جمْرِ اللّهَب
أنتَ – يا قامةَ الرّيحِ في أوْجِها – قمَرٌ
في لهيبِ الدّماءِ تألَّقَ بين سماءَيْنِ:
أُولاهُما انْطفأتْ بالدُّخَانِ ،
وأُخراهُما انْطفأتْ بالشُّهُبْ.

***
أنتَ - يا طِفْلُ-
حُلْمُكَ راودَنِي في الْهزِيعِ الأخِيرِ مِنَ الْموْتِ؛
فانْتفضتْ في دَمِي أنْجُمُ الأقْحوانِ،
توهّجَ في خاطِرِ الْموْجِ و الرّمْلِ والأُمْنِياتِ دَمِي،
أيْنَعَتْ ورْدَتَانِ بِجْمْجُمتِي في الْخرابِ ؛
فَلُذْتُ مِنَ اللّيلِ بِالْحُلْمِ،
أِبْصَرْتُ حُلْمَكَ بينَ الْخِيامِ
يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى الْقلْبِ و الْفجْرِ و الْبسَماتِ...
يَمُدُّ الجُسُورَ إلى الْوَطَنِ المُنْتَمِي لِلصّقيعِ 
مِنَ الْوَطَنِ المُنْتَمِي لِلّهَبْ
أنتَ – يا قامةَ الرّيحِ في أوْجِها –
قمَرٌ لِلَّظَى ينْتَسِبْ.

***
أنتَ - يا طِفْلُ-
حُلْمُكَ راودَنِي 
في الْهزِيعِ الأخِيرِ مِنَ الْجمْرِ ؛
فارْتَبَكَتْ – في ارْتِعاشِ الصَّدَى 
وارْتِجَاجِ الْمرايَا – كَوَابِيسُ أُمِّي،
تَشَابَكَ – في حُلْمِها بالرّبيعِ- شرُوقٌ و عِطْرٌ ،
ودَثَّرَها في الشُّرُوقِ شِراعٌ،
ودجَّجَها الْعِطْرُ بِالْبَرْقِ و النَّفَحَاتِ...،
ولَمَّا أفاقَتْ تأَوَّهَ في عِطْرِها نَوْرَسٌ،
و بكَى في غُروبِ الشُّرُوقِ شِراعٌ
تساقطَ مِنْ قِمَّةِ اللَّفْحِ
فوقَ النَّشِيجِ اخْضِرارُ الْعِنَبْ
آهِ ، يا طِفْلَُ 
حُلْمُكَ لاَ يَنْتَهِي
بِانْتِهاءِ الْمسافةِ ما بيْنَ جمْرِ الصّقيعِ و جمْرِ اللّهَب.

***
آهِ ، يا أُمُّ
قدْ دَجَّجَتْكِ الجِرَاحُ
وكُلُّ الَّذِينَ بِعِيْنَيْكِ هَامُوا...
بُعيْدَ الْحَريقِ على ساعِدِ الصَّمْتِ نَامُوا،
وكُلُّ الَّذِينَ لِعِيْنَيْكِ صلُّوا قُبَيْلَ الْحَريقِ
قدِ انْسَحَبُوا و تَوَارَوْا...
وطِفْلُكِ ظَلَّ يجُوعُ و يعْرَى 
ويَشْرُدُ...
لكِنَّهُ عَنْ ضِفَافِكِ لم يَنْسَحِبْ

***
آهِ ، يا أُمُّ قدْ دجَّجَتْكِ الجِرَاحُ،
وجفَّ اخْضِرَارُكِ تحْتَ سماءِ الدُّخَانِ ،
وشَوَّهَ حُلْمَ الْقرنْفُلِ - فِيكِ- سَرَابٌ...
فَمَنْ يَغْسِلُ الْحُلْمَ ...؟
فَمَنْ يُحْرِقُ اللَّيْلَ...؟
كُنْتِ انْتِشَارَ الرِّيَاحِ اللَّواقِحِ ،
كُنْتِ ازْدِهارَ الفُصُولِ...
وكُنْتِ...
وكُنْتِ ...
وكُنْتِ ...
وما زالَ طِفْلُكِ في الْجَدْبِ
قِيثَارَةً مِنْ عُشُبْ

***
آهِ ! يا أُمُّ ، طِفْلُكِ يشْدُو...
أَهَازِيجُهُ تَرْفُضُ اللَّيْلَ و الدَّمْعَ،
وتفُوحُ بِرائحةِ الْعُشْبِ آهاتُها
كُلَّما اغْرَوْرَقَتْ بِالْكوابِيسِ عاشِقَةٌ...،
وتَمازَجَ في عِشْقِها طَرَبٌ و طَرَبْ.

***
آهِ ! يا أُمُّ ، طِفْلُكِ ينْفُضُ أشْرِعَةَ الثَّلْجِ
في حَمْحَمَاتِ اللَّهِيبِ،
ويَسْحَبُ جَلاَّدَهُ بِالْحِجارةِ نحْوَ الْغُرُوبِ؛
فَتَحْتَشِدُ الأُغْنِياتُ بِلُثْغَتِهِ ،
وتُعانِقُ أحزانَهُ المُتْرَعَاتِ بِبوْحِ الشَّذَا ،
وتُحاوِرُ أَفراحَهُ الْقادِماتِ 
مع الْقُبَّرَاتِ الْمُضِيئَةِ
والاخْضِرارِ الذِي غَابَ عَنْ لوْنِهِ واحْتَجَبْ.

***
آهِ ! يا أُمُّ ، وجهُكِ مُؤْتَلِقٌ
بيْنَ زهْرِ الْحِجارةِ و الطِّفْلِ في زحْفِهِ،
وَجْهُ طِفْلِكِ مُزْدَحِمٌ بالسَّنابِلِ و السَّوْسناتِ،
وجَلاَّدُكِ المُسْتَبِدُّ مُحَيَّاهُ يحْمِلُ حَجْمَ الْجَفَافِ
وطعْمَ الظَّلامِ و لَوْنَ التَّعَبْ.

***
آهِ ! يا أُمُّ ...، 
هذا نجِيعُكِ
تحْتَ سَوادِ الْمرايَا
وهذِي جِراحُكِ 
تحْتَ دُوارِ الشَّظَايَا
فماذَا تقُولُ فوانِيسُ عِشْقِكِ لِلزَّمْهَرِيرِ...؟
وماذَا تقُولُ فراشاتُ برقِكِ
عِنْد احْتِراقِ الشَّرانِقِ قبْلَ الْعُبُورِ ...؟
وماذَا...؟
وماذَا...؟ 
وماذَا...؟
ربيعُكِ آتٍ...
فَإِنَّ السَّماءَ إذا رجَّها طِفْلُكِ انْتَعَشَتْ
وذابتْ على قَدَمَيْهِ السُّحُبْ.

***
آهِ ! يا أُمُّ ، يا قامةَ الرّيحِ في أوْجِها
جُثَثٌ فوقَ كفَّيْكِ تَبْحثُ عنْ بعْثِها ...
وقبُورٌ تُفتِّشُ عنْ ساكِنِيها...
وعطْرٌ تُفتِّشُ عنْ ورْدةٍ يسْترِيحُ بِأَفْيَائِها 
وضِياءٌ يُفتِّشُ بينَ اللَّظَى عنْ فراشاتِهِ ...
والْفوانِيسُ مُطْفَأَةٌ في عُيُونِ الْبَنَادِقِ، 
مُزْهِرَةٌ عُيُونِ الْحِجَارَةِ...
لاِ تَحْزَنِي ...
فَتَبَاشِيرُ فَجْرِكِ قدْ بَدَأتْ تَقْتَرِبْ .

***
آهِ ! يا أُمُّ ، يا قامةَ الرّيحِ في أوْجِها
هَذِهِ آخِرُ الأُمْنِيَاتِ ...
تَمَنَّيْ...!
فللْحُلْمِ سَيْفٌ،
ولِلسَّيْفِ حُلْمٌ،
ولِلْبَرْقِ بيْنَهُما شَفَقٌ،
ولِكَفَّيْكِ – عِنْد ارْتِطامِهِما – قَمَرانِ
وقِنْدِيلُ وَرْدٍ
وأُهْزُوجَةٌ ورُطَبْ.

***
آهِ ! يا أُمُّ ، يا قامةَ الرّيحِ في أوْجِها
هَذِهِ آخِرُ الْحَشْرجَاتِ ...
قِفِي...!
لِلَّهِيبِ رَمادٌ...
ولِلْمَسْرَحِيَّةِ خاتِمَةٌ...
ولِطِفْلِكِ بعْدَ الرَّمادِ لَهِيبٌ جَدِيدٌ
يُضِيءُ فوانِيسَ عِشْقِكِ بِالأُرْجُوانِ...
قِفِي واشْمَخِرِّي...!
قِفِي واشْمَخِرِّي...!
قِفِي واشْمَخِرِّي...؛
سَتَفْنَى الْخُمُورُ قَرِيبًا
وتَبْقَى دوالِي الْعِنَبْ.

شعر: محمد علي الهاني - تونس
التصنيف : |
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات الجريدة يحيى خضر روائع الشعراءضع ابداعك هنايحيى خضر زيارة صفحة الخصوصية
نسخ الرابط
نسخ للمواقع
التعليقات
0 التعليقات

احدث المواضيع

3efrit blogger 

عدد زوارالجريدة

اضغط اعجبني

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في كل الوقت

احدث المواضيع

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في أخر 30 يومًا

ارشيف الجريدة

جميع الحقوق محفوظة © يحيى خضر
تصميم و تطوير : يحيى خضر
يحيى خضر © 2016