قصة قصيرة : بقلم / محمد على عاشور ( اللقاء الأول)

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
قصة قصيرة بقلم / محمد على عاشور 
 اللقاء الأول
وقف بسيارته السوداء الفارهة أمام ( السوبر ماركت ) الصغير ، أنزل نصف زجاجها الأتوماتيكى ، تطلع من خلف نظارته إلى تلك الفتاة الواقفة فيه ، ظل يرقب حركتها وهو جالس فى سيارته يتطلع إلى خفة يدها وهى تبيع وتغلف وتقبض الثمن ، وتلك الابتسامة التى لا تفارق ثغرها الجميل وملامح وجهها المشرق .
هبط من سيارته فى هدوء ، وكان كل شىء فى مظهره يدل على ثرائه الفاحش ، سيارته ، ملابسه ، ورائحة عطره النفيس التى تداعب أنوف المارة من حوله وتجذب عيونهم إليهم .
وقف بالقرب من الفتاة ، بجوار قائمة المبيعات كأنه يقرأها ، تتبع كل همسة وكل لفتة لهذه الفتاة ، بهرته ملامحها الجميلة ، فوجهها الأبيض المستدير كأنه البدر فى تمامه ، وهذه الكحلة الفرعونية التى سحبت إلى الخارج كأنها أميرة آتية من عصر الفراعنة ، وذاك الأنف الصغير المتورد من الأمام ، وذاك عنقها المرمرى الذى لف بعناية وظهر من أسفله بداية صدر رائع الإستدارة ، وهذا الشعر الناعم المسترسل على الكتفين والذى يتطاير مع كل حركة ، وتلك الشعيرات التى تدلت حتى منتصف الجبين فزادت ذلك الجزء المختفى خلفها غموضاً فوق جماله .
نظرت إليه وابتسمت وهى تسأله : أى خدمة يا أستاذ ؟
كررت سؤالها بسبب شروده فى عينيها حتى كادت أن تضحك
استجمع ذهنه وكح كحة خفيفة ، ثم بلع ريقه وهو يسمع هذا الصوت الناعم كأنه لحن يخرج من قيثارة ، ومع تكرار سؤالها طلب علبة سجائر أجنبية .
قالت له وهى توارى ابتسامة : نفد الأجنبى ولا يوجد سوى المصرى
داعبها بقوله : أحب المصرى
أمسكت ابتسامتها عند مداعبته التى اعتادت على سماع مثلها حتى لا يتماد ، وأعطته طلبه وقد ترك عطره أثراً على ورقة النقود التى دفعها لها ، ولمس بأنامله يدها البضة وهو يأخذ ما تبقى له من نقود ، شعر بالحرج وهو واقف أمامها ينظر إليها كالطفل الصغير وهى تتعجب من نظراته ، انسحب فى هدوء إلى سيارته وشيعها بنظراته وهو يسير يتحرك ببطء بسيارته وقد تعلقت عيناه بلافتة
( السوبر ماركت ) حتى اختفت عنه .
قرر أن يمر عليها كل يوم ليأخذ علبة سجائره الأجنبية حتى آلفته واعتادت عليه ، وقد عرفت ميعاده الذى سيأتى فيه حتى أنها أحبت نظراته وارتاحت إليها .
انقطع عن الحضور لكنها كانت تنتظره ، وفى إحدى الأدراج علبة سجائره ، بل أصبحت تفكر فى قدومه وفى تلك النظرات المتوحشة من عينيه ، وقد حاولت كثيراً أن تطرده من خيالها فلم تستطع .
عاد بعد عدة أيام ، وقد شعرت بنشوة كادت تطيح بإتزانها حتى أحست أنها تريد أن تخرج من مكانها لاستقباله وهو قادم من السيارة وتحتويه بين ذراعيها ، لم تعرف كيف واتتها هذه الأحاسيس ، وقف ينظر فى عينيها وقد لاحظت شحوب وجهه والسواد البادى حول عينيه من أثر مرض قد ألم به.
أفاقت على تكراره طلبه ، مد يده ليأخذ العلبة ودس فى يدها ورقة طبقت بعناية ، وضغط على أصابعها وبينها الورقة وقد أحس الرعشة فى يدها ، نظر فى عينيها وعاد إلى سيارته مسرعاً وانطلق ثم اختفى .
وقفت واجمة لحظات ، أحست كأنها فى حلم ، نظرت إلى الورقة ثم أطبقت يدها ، وهى تتلفت حولها وألقت بنفسها متهالكة على الكرسى الذى خلفها ونظرت للورقة مرة ثانية ثم أخفتها فى حقيبتها .
فى المساء دخلت غرفتها وأغلقت على نفسها الباب ، جلست على سريرها وضمت ركبتيها إلى صدرها واحتضنتهما بيديها وقد طار النوم من عينيها ، وظلت تفكر فيما حدث فى يومها وهى تنظر إلى حقيبة يدها التى بها الورقة وقد انبعثت منها رائحة عطره ، أخذت تقرأ سطورها ، وعيناها تلتهم الكلمات فى نهم ، قرأتها عدة مرات وفى كل مرة تشعر بنشوة شديدة فتعاود قراءة تلك الكلمات التى تمنت أن تقال لها أو تسمعها فى يوم من الأيام .
ظلت قابعة فى مكانها وقد أمسكت بالورقة ولم يقرب عينيها النوم إلا غفوات متقطعة .
فى ( السوبر ماركت ) جلست على كرسيها لا تعرف كيف تبيع ، ولا تفكر إلا فى شئ واحد .. ماذا ستفعل عندما يأتى ؟ وماذا ستقول له ؟ وكيف ستلقاه ؟؟
مرت الساعات كأنها دهر ، لم تستطع التوقف عن التفكير إلا عندما رأته قادماً ، فقد توقفت كل خلجة من خلجاتها برهة عن الحياة حتى كاد أن يغمى عليها ، وقف يطلب منها علبة سجائره وقد رأى كل هذا الأرق البادى عليها ، مدت يدها المرتعدة بالعلبة ، أمسك يدها والعلبة معاً ، أحست به يعتصر يدها ، نظرت فى عينيه المتوسلة وهى تحاول تخليص يدها من يده لكنه كان قد أطبق عليها بشدة حتى ظهر على وجهها شدة يده على يدها ، ترك يدها فى هدوء وقد تركت أصابعه أثراً وقد فغر فمه يحاول أن يتكلم مدة ، وبصعوبة طلب أن يكلمها لكنها نظرت إلى الأرض ولم ترد ، كرر طلبه لكنه لم يسمع إلا الصمت وانصرف .
عاد فى اليوم الثانى وطلب مثلما طلب فى أول مرة ولم تتفوه بكلمة ،وجاء فى اليوم الثالث والرابع حتى قالت له فى استعطاف : أرجوك ... ماذا تريد منى ؟
قال لها فى صوت منخفض كله رجاء : أننى أحبك .. أحبك .. منذ أن رأيتك .
صعد الدم إلى رأسها كأنه يغلى ، وأحست بحرارة تخرج من وجهها
وهى تقول له : أرجوك .. لا تتكلم .. أرجوك دعنى لحالى .
: لابد أن أتكلم معك
: أرجوك .. قالتها فى استعطاف وخوف شديدين وهى تتلفت حولها
قال بصوته الرخيم الممتلىء بالإصرار : إننى أحبك .. صدقينى أحبك
زاغت عيناها وإزدادت رعشتها وأخذت تتلفت يميناً ويساراً فى قلق وقالت وهى مرعوبة : أرجوك انصرف الآن .
: لابد أن أتكلم معك
: أرجوك ليس الآن .. ليس الآن
: متى .. أجيبينى .. متى ؟
: قلت لك أرجوك .. انصرف .. الآن قبل أن يأتى أحد ، انصرف .
انطلق بسيارته وهى تتابعه بعينيها الحائرتين ، ماذا تفعل مع هذا الحب القادم من أعماق المجهول ؟ لا تعرف ماذا تفعل مع هذا الذى يريد أن يقتحم قلعتها التى أقامتها حولها ؟ ، لكنها تعرف أنها تحبه .
ظل يتردد عليها ويلح فى طلبه ويتوسل إليها أن تقابله ليتكلم معها، ضعفت أمام توسلاته وكانت حقاً قد اشتاقت لسماعه والجلوس معه ، فقد أحست بحبه لها وهيامها به ، وافقت أن تقابله فى إحدى الحدائق التى ذهبت إليها ورأت بها بعض قصص الحب التى تنمو بها وتمنت فى يوم أن تعيش إحداها .
وهى فى طريقها لتقابله عاودتها تلك الأفكار وهذه الأسئلة ، كيف لهذا الشاب أن يحبها ؟ لقد حلمت بفارس أحلامها وكان مثل هذا الشاب، لكنه فارس أحلام وليس فارس حقيقة ، أنها حتى لم تعرف اسمه للآن ، حتى هو لم يعرف اسمها ، إن لها الحق أن تحلم ، وأن تحب فى الحلم كما تشاء ومن تشاء ، لكن الواقع – أه من الواقع – شئ غامض مخيف يختلف تماماً عن الحلم ، فالحلم مثل الحكايات ، هل يتحقق ما رأته فى السينما ، هل يحدث هذا معها ؟ يحب الفتى الغنى ذا الحسب والنسب .. يحبها هى الفتاة الفقيرة ، ويرفض أبوه هذه العلاقة ، وينظر إليها باستعلاء ، فيتمسك هو بها ، فيزداد أبوه إصراراً وعناداً ، فيشتد تمسكه بها وعناده لوالده ، ويهدده والده ، ولكنه يتحدى، ويعلن أنه سيتزوجها مضحياً بأموال أبيه ، ومع إصراره وتمسكه بها يرضخ والده كى يحافظ على ولده .
كانت تشعر بنشوة غريبة وهى تعيش فى تلك الأحلام ، ثم تفيق وتضحك من نفسها حتى وصلت إلى الحديقة .
بحثت عنه فى الحديقة، لم تجده اى مكان، ، ولم تتوقف عن البحث عنه لحظة واحدة ، دارت فى الحديقة عدة مرات ، وعيناها تتصفح جميع الوجوه ، وأصبحت تعتقد كل شاب يشبهه من بعيد أنه هو فتقترب منه ، وهى تسرع الخطى لتصيبها خيبة الأمل .
كانت تشم رائحة عطره فى كل مكان تذهب إليه ، لكنها لم تجده ، أرهقها التعب من كثرة بحثها عنه ، وارتمت متهالكة على أول أريكة متوارية عن الأنظار قابلتها ، وجلست تبكى فى صمت حتى غالبها النعاس .
أمسكت يد فى حنو بكتفها ، فزعت ونظرت بعصبية ناحية اليد وقد امتلأت عيناها بالدموع ، وما أن رأته حتى انفرطت دمعة من عينيها ، فجلس بجوارها يجفف دموعها بمنديله ويخبرها أنه بحث عنها فى كل جزء من الحديقة .
توقفت عن البكاء وهى تنظر فى الأرض ، وهو يمطرها بكلمات الحب والاعتذار ويخبرها بما أصابه من هم وخوف عدم حضورها .
أخذ يمطرها بمعسول الكلام وقد أمسك يدها فى حنو ، ثم طلب منها أن يتمشيا فى الحديقة ، طاوعته وقد تأبط كل منهما الآخر ، أخذت تسير بجواره هائمة ، وعندما سقطت عيناها على أول حبيبين ، ابتسمت فى داخلها ، فلم تعد تشعر بأنها أقل من أحد ، فهى الآن محبة وبجوارها حبيبها .
ظلا يدوران فى الحديقة كلها ، وكان يشترى لها من كل بائع يقابلها أى شئ وإن كانت لا تريده ، حتى وصلا إلى بائع ( الآيس كريم ) اشترى لها واحدة وأخذ يطعمها بيده ، أحست أنها لم تزق أحلى من ذلك .
جاء مجموعة من الفتية ليلعبوا الكرة ، أخذ يرقبهم ، عرفت أنه يحب الكرة بجنون ، أخذ أحدهم يطلق صفارته منهياً اللعب ، ظلت الصفارة تنطلق وتنطلق .
أفاقت وهزت رأسها ، لم يكن فى الحديقة سواها نائمة على مقعدها ، وحارس الحديقة يطلق صفارته معلناً انتهاء اليوم .
قامت تبحث عن حبيبها وفى أنفها رائحة عطره وفى فمها طعم الآيس كريم التى كانت تأكله .
التصنيف : |
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات الجريدة يحيى خضر روائع الشعراءضع ابداعك هنايحيى خضر زيارة صفحة الخصوصية
نسخ الرابط
نسخ للمواقع
التعليقات
0 التعليقات

احدث المواضيع

3efrit blogger 

عدد زوارالجريدة

اضغط اعجبني

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في كل الوقت

احدث المواضيع

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في أخر 30 يومًا

ارشيف الجريدة

جميع الحقوق محفوظة © يحيى خضر
تصميم و تطوير : يحيى خضر
يحيى خضر © 2016