من طفولتي _____ الزعيمة ناديا ((حنين فيروز ))

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

من طفولتي _____ الزعيمة ناديا ((حنين فيروز ))

من طفولتي _____ الزعيمة ناديا
لفصل الصيف حكايات أخرى،نمطه مختلف عن باقي الفصول،فوالدتي كانت تمنعنا من الخروج للّعب خشية أن يصاب أحدنا بالحمّى،ما إن نتناول طعام الغذاء حتى تشير إلينا بحزم وتقول :
_إنّها فترك القيلولة،ولن أسمح لأحدكم بالخروج..!
كم كنتُ أكره تلك الكلمات التي يعقبها تمدّد أمي وسطنا حتى تفرّق جمعنا ولا تتّحد وشوشاتنا لمناقشة كيفية التسلّل إلى الخارج للعب،لذلك كنّا نلزم جانب الصمت خشية غضبها وعقابها اللاذعين..
حانت الساعة الخامسة عصرا وخرج إخوتي مطلقين سيقانهم للريح،لكنّي ما أزال جالسة بدون حراك خلف ظهر أمي فهي لا تسمح بخروجي إلا قليلا،لكنّ طرقات مباغتة على الباب ستمنحني فرصة التسلّل،فأمّي ستنشغل بالحديث مع الجارة وخمس دقائق ستتمدّد وتصير ساعة أو ساعتان وهذا وقت لابأس به للّعب أمام المنزل،لذلك أتسلل بهدوء وما إن أصل إلى الدّرج حتى أنزع حذائي وأضعه تحتي إبطي وأفقز حافية فوق درجات السلم بسعادة..
أقف عند عتبة المنزل،أنتعل حذائي وألتفت يمينا ويسارا،وأرفع رأسي بحذر إلى الأعلى خشية أن تطلّ أمي بغتة فتناديني لأعود أدراجي كاسفة البال..
لذلك كنت أوصي رفيقاتي بمراقبة النافذة حتى يتسنّى لي الاختباء أسفل البيت حال ظهور أمّي منها..
أتوقّف هنيهة عند الباب وأرى البنات يلعبن لعبة الشريط المطاطي،فأتجه نحوهنّ وأطلب منهنّ مشاركتهنّ اللعبة،لكنّ الزعيمة ناديا تظهر بشكل مباغت لتنظر إليّ بشزر وتشير إلي بإصبعها بكراهية :
_هذه بالذات لن تلعب معنا وإلا منعتكنّ جميعا من اللعب..!
أتراجع إلى الوراء دون أن أنبس بكلمة، فأنا أحرص بشدة على الابتعاد عن المشاكل وخاصة مع نادية..
كانت في نفس عمري تقريبا،فتاة سمراء ،عيناها سوداوان ضيقتان،وشفتاها دوما مزمومتان لأنها غالبا ما تكون غاضبة،شعرها الأسود تعقده خلف ظهرها على شكل ذيل حصان،ونظراتها حادة كنمرة على أهبة الانقضاض في كل حين..
الجميع كانوا يرهبون نادية فهي الشقيقة الصغرى لأخطر شباب الحي،بيتها ملاصق للمنزل الذي كنّا نقطنه،والشرطة لا تفتأ تقلب بيتهم رأسا على عقب بحثا عن المخدّرات وزجاجات الخمر التي كانوا يتاجرون فيها..
كما شهدتُ العديد من مشاحنات إخوتها مع رفاقهم بالسكاكين من شقوق مصراعي النافذة،فلا أحد يجرؤ على المشاهدة عن قرب مهما بلغت شجاعته ،ما إن يصرخ أحدهم حتى يصعد إلى بيته لإحضار سكين كبير فنفرّ تباعا والهلع يكبّل خطواتنا الصغيرة..
لكن بالرغم من خطورتهم إلا أنّ هيبتهم كانت كبيرة،فهم يحترمون جيرانهم ولا يسيؤون إليهم أبدا،مازلت أذكر يوم صدمت عربة شقيقي الصغير،نزلت أمي تبكي وتولول وهي تتفحّصه بلهفة،والدم يقطر من جبهته..
سائق العربة بدأ في الصراخ وهو يلعن الصغار وكثرتهم ويلقي باللوم على أخي،لكنّ أحد أشقاء نادية ظهر من العدم وأميك بلجام البغل وطلب من صاحبه أن يترجّل..
حاول صاحب العربة التملص من مسؤوليته لكن شقيق نادية أمسكه من ياقة قميصه وقال بلهجة آمرة وهو يضغط على مخارج الحروف :
_الآن ستحمله إلى المستشفى،وستعيد الولد سليما معافى!
خضع الرجل لأمره دون أن تكون لديه أيّ خلفية عن شقيق نادية،فقط عيناه الحمراوتان أرهبتاه كثيرا،فأشار لأمي وجارتيها بركوب العربة وعادوا بعد ساعة مبتهجين ،أمّا صاحب العربة فقد جلد البغل بقسوة وهو يلعن في سرّه مروره من تلك الطريق ..
كانت تلك حادثة أثبتت نبلهم ونخوتهم،لكنّي بالرغم من ذلك كنت أرهب نادية وأحاول دائما أن أتّقي شرّها..كانت تكرهني كثيرا خاصّة إن لمحتني أجلس أمام عتبة البيت أحمل بين يديّ كتابا أغرق في عالمه فلا أعيرها اهتماما،كانت متعثّرة دراسيا ورسبت عدة مرّات فأصبحت تدّعي أنّها أصغر منّا سنّا..
لكنّ ابنة عمّها ربيعة مختلفة تماما في كلّ شيء،فهي لطيفة وحلوة المعشر،عيناها الخضراوان جميلتان وشعرها الكستنائي ناعم وقصير،لكنّها كانت تعاني عرجا خفيفا في إحدى رجليها،وكثيرا ما تتّكئ على كتفي وتثقل خطواتي،لكنّي أصبر ولا أشكو من التعب..
حين تلمحني ربيعة أجلس أمام المنزل وحيدة أراقب البنات بانكسار ،تهرول نحوي لتمدّ لي يدها وأقوم من مكاني ثمّ نجتاز الشارع للجهة الأخرى حيث عمود النور سيساعدنا في مهمّتنا،كنّا نربط الشريط المطاطي الأبيض وسط عمود النور وأمسك طرفه لكي تقفز عليه ربيعة ،وبعد لحظات تبتسم لاهثة وتقول :
_لقد حان دورك..
أما نادية فتراقبنا بوجوم من بعيد لكنّها لا تجسر على الاقتراب منّا،لأنّها تخشى هي الأخرى افتعال المشاكل مع ابنة عمّها فوالدها سيوبّخها بشدة إن هي ازعجت ربيعة..
بعد لحظات نملّ اللعبة فنفك الشريط خشية سرقته،ونمضي إلى السوق القريب منا،نصعد الطابق الأول ونتجول هناك بكلّ اريحية،نشير بأصبعنا إلى الخواتم الذهبية والدمالج فتختار ربيعة ما أعجبها وبينما نتصارع أنا وهي عن الأجمل يطلّ علينا الصائغ بغضب :
_إلعبا بعيدا هيا !
ونعود أدراجنا،قبل السابعة مساء،فأول شيء يفعله والدي حين عودته من العمل هو السؤال عنّا جميعا وهو يخلع سترته،والويل كلّ الويل للغائب أو الغائبة دون عذر مقنع ..
وكما نزلت خفية أصعد خفية وحذائي تحت إبطي،أستمع جيدا فلا أسمع صوتا،أطل برأسي فلا أرى شيئا،فأتوجه رأسا إلى الحمّام،لأغسل وجهي سريعا..
ما إن أخطو خطوتين حتى تظهر والدتي أمامي بنظراتها النارية وسؤالها المعتاد:
_أين كنتِ؟
قد تغفر لي تسلّلي بعد لوم وتقريع وقد تعاقبني بالمزيد من حظر التجوّل،وهذا راجع إلى صفاء مزاجها أو تعكره،لا أهتمّ للعقاب،المهمّ أنّي استنشقت القليل من الهواء بعيدا عن السجن الذي تحشرنا والدتي فيه بدعوى الحمّى والخوف علينا...
حنين فيروز
20/06/2016
التصنيف : |
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات الجريدة يحيى خضر روائع الشعراءضع ابداعك هنايحيى خضر زيارة صفحة الخصوصية
نسخ الرابط
نسخ للمواقع
التعليقات
0 التعليقات

احدث المواضيع

3efrit blogger 

عدد زوارالجريدة

اضغط اعجبني

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في كل الوقت

احدث المواضيع

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في أخر 30 يومًا

ارشيف الجريدة

جميع الحقوق محفوظة © يحيى خضر
تصميم و تطوير : يحيى خضر
يحيى خضر © 2016