قصة قصيرة بقلم محمد على عاشور / تحول

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
قصة قصيرة بقلم محمد على عاشور
تحول

وهو جالس في المقعد الخلفي في " الميني باص " عائداً من عمله إلى بيته رآها تصعد " الميني باص " أعرض عنها مدعيا أنه لم يرها ، ولأن المقعد الجالس فيه خال إلا منه ، ولأنها تريد أن تجلس بجواره فقد جلست ومعها طفلها ، وعرف أنه طفلها لأنه ناداها مرة " ماما " ومرة أمي .
دارت في داخله عدة هواجس ولم يعرف ما هيتها ، وأسئلة لم يعرف لها إجابة لماذا جاءت وجلست بجواره ، مع أنه يوجد أماكن أخرى في " الميني باص " يا للوقاحة !أو هل يريدها أصلا أو حتى يريد أن يراها ؟ لا يعرف . لقد أحبها في يوم من الأيام وخطبها لكنهما انفصلا وتزوجت ، رغم عنها أو بخاطرها لا يهم السبب ، فقد تزوجت ، وكره الزواج وأحجم عنه ، لكنه ما زال للآن يحتفظ بدبلتها في بنصره الأيمن فلم يطاوعه قلبه أن يخلعها .
جلست بجواره تختلس النظر إليه بين الفينة والأخرى ، وطفلها من تصرفاته يبدو أنه مشاغب ، وهو لا يحب الطفل المشاغب ، الطفل معه قطعة من العسلية أصابت يده وفمه بالزوجة ، وأصابت صدره بالبقع من لعابه السائل عليها .
" هل هذا هو الطفل الذي كان يحلمان به أثناء فترة الخطوبة ؟! لقد كان يتمنى أن يكون طفله الأول شاعراً مثل " نزار قباني " وكانت هي تقول لا .. دكتور ... ويضحكان " عندما تذكر ذلك كاد أن يبكي .
إن الطفل يتلفظ بألفاظ غاية في القذارة ، ألفاظ تخنقه وتصيبه بالقرف من الطفل ، لقد سمعه يقول لها " يا وليه " وهي تنهره وتقول له :
عيب ما تقول كده قدام الناس .
قال في سره وهو خزين :
يااااه .. قدام الناس ! كل ما يعنيها الناس .. الناس فقط .
أخذ " الميني باص " يتخفف من بعض ركابه حتى خلا الكرسي الذي يجلسان فيه إلا منهما ، والذي أمامهما خلا من كل ركابه ، وبالرغم من ذلك ما زالت ملتصقة به .
ظل الطفل يتنقل في الأماكن الخالية في السيارة ، وأخذت هي تتململ في جلستها حتى أقلقته ، وأحس أنها لن تتركه في حاله .
التفت إليها وهو يبتسم ابتسامة خفيفة لكن في داخله كان يمتلئ بالمرارة والامتعاض ، ولكنه أحس أنها تريد أن تتكلم ، ألقى عليها السلام وسألها عن حالها .
وكأنها أتتها الفرصة ، وانطلقت تثرثر وتتكلم عن كل شيء وأي شيء .
نظر إلها وإلى حديثها ، لا تخلو جملة من ذكر النقود والإنفاق والعمل والمكسب والخسارة ، وأعمال زوجها ومحلاته التي تملأ طول البلاد وعرضها .
ابتسم في داخله لأنه يعلم أن زوجها يمتلك محلين فقط .
لم تتوقف لحظة واحدة عن الكلام وهو يتابعها وبتفحص هيئتها ، وملابسها ، ولهجتها التي تغيرت أو انقلبت ، كل شيء فيها أصبح على نقيضه ، فيبدو أنها سقطت على رجل يهوي اكتناز المال رغم غناه.
تذكرها أيام خطبته لها ، عندما كان يجلس معها في بيتها وتكلمه ، كان حديثها حلوا ، ودائما كانت تقرأ له من أشعرا " نزار قباني " وكانت عند إلقائها لشعره يطرب ، وعندما كانت تجد كلمة ( النهد ) كانت تموء موءاً جميلاً كالقطة فيبتسم وتبتسم حتى تتخطاها ، ثم تتابع وهو نشوان يتابعها وهو مغمض العينين .
نظر إلى ملابسها ، لقد كانت فنانة في انتقاء ملابسها برغم رخصها ، أما الآن نظر إلى ملابسها ، ترتدي فستاناً قديما، أكل منه الزمن وشرب ، به بعض الأماكن من على الذراع قد خيط بالإبرة بلون مخالف تماما للون القماش ، وعلى رأسها طرحة لونها غريب لم يره من قبل ، بها بعض الورود الضائعة ، تذكر الورود القليلة التي كانت تقطفها له من قصرية الزرع عندما تتفتح في بلكونة بيتها .
نظر إلى يديها " يااااااه " تلك اليد البيضاء التي طالما وضعت في فمه حبات من الفول السوداني الذي تحمصه حتى يتحول إلى لون الحناء الذي يحبه ، لقد أصبحت اليد خشنة وفقدت جمالها ، هل اقتنت قفصاً للعصافير في بيت زوجها كما كانت تقول إنها ستجعل في كل مكان في بيتنا قفصا للعصافير ؟ .. لا أعتقد !
هكذا سأل نفسه ، وهكذا أجاب عليها
جذبت الطفل من المقعد الذي أمامها، والطفل يرفض بشدة الانصياع لوالدته ، أخذ يراقب الطفل وهو يتملص منها ، ملابسه رثة غير متناسقة ، يلبس بنطلوناً قديماً ظهر فيه من حركاته وكثرة تملصه فتق من أسفله وظهرت منه عورته .
داهمته ضحكة مباغتة، وهو يرى عورة الطفل، لكنه ألجمها وكتمها في صدره وهو يتابع ثرثرتها .
يحاول الطفل أن يصرخ وهو يلعب في " الميني باص " بعدما خف من ركابه ، لكنها تحاول أن توقفه ، من حركاته الشديدة ودفعه لها أصاب ظهر يده وجهها " اقعد يا ابن الكلب " هكذا نطقت ، وضغطت على فمه لتسكته ، عضها الولد وانفلت منها وقام ليلعب ، وعاودت هي الثرثرة كأنها لم تقل شيئاً .
تجهم وجهه وانقبض صدره " ابن الـــ ...... " إنه لم يستطع أن ينطقها بينه وبين نفسه ، لقد سمع هذه الكلمة مرات لا يعرف عددها ، لكنه لم يسمعها بهذا القبح .
هل هذا ما أصبحت عليه يا من عشت راهباً في محراب حبك ؟! خمس سنوات مرت لم أرك فيها وعندما أراك تكونين بهذا الحال ... سامحك الله .. قالها في حزن وقلبه يعتصر .
نظر إلى الدبلة التي في إصبعه وكان كتب عليها اسمها من الداخل .
أطلق السائق بوق سيارته كي ينبههما .
أخذت الطفل ونزلت من " الميني باص " ، وظل ينظر إليها ويستدير بنصفه العلوي ويتابعها من خلف الزجاج و " المين باص " يتحرك وهي تلوح له بيد ، وباليد الأخرى تقبض على معصم الطفل ، وأخذت تبتعد حتى اختفت .
اعتدل في جلسته ونظر إلى الأمام وعلى وجهه ابتسامة حزينة ، خلع الدبلة ونظر إلى اسمها ثم وضعها في جيب سترته وأطلق لفكره العنان .
.........................
التصنيف : |
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات الجريدة يحيى خضر روائع الشعراءضع ابداعك هنايحيى خضر زيارة صفحة الخصوصية
نسخ الرابط
نسخ للمواقع
التعليقات
0 التعليقات

احدث المواضيع

3efrit blogger 

عدد زوارالجريدة

اضغط اعجبني

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في كل الوقت

احدث المواضيع

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في أخر 30 يومًا

ارشيف الجريدة

جميع الحقوق محفوظة © يحيى خضر
تصميم و تطوير : يحيى خضر
يحيى خضر © 2016