( الورقة الزرقاء _ بقلم وليد.ع.العايش

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

( الورقة الزرقاء )

__________


هسيسُ أوراق الشُجيرات الصغيرة يلفحُ النافذةَ بهدوء، الريحُ كانتْ نائمةً في ذاك المساء ، غيومٌ عابرةٌ تُلقي التحية على أرضٍ مازالتْ تحتفظُ ببقايا أملٍ على صمودٍ دامَ سنوات عِجاف ، ستارةٌ كحليّة اللون , مُهشّمةَ الأطراف , وكأنّها لتوِّها خارجة من جبهةٍ ساخنة ، تترنحُ معَ نسمةٍ غضّة ، المطرُ بخجلٍ يتواجدُ من تحتِ قبّة سوداء ، ينسابُ خِلسةً منْ بينِ ثنايا الظُلمةِ الحاضرة ، السهرةُ ماتزالُ في بداياتِ ربيعها ، مدفأةٌ تُعانِقُ جذوةَ النارِ المُتهافتة ، تتجمّهرُ العائلةُ بِتحلّقٍ دائريّ ، تستنجِدُ بنيرانِ المدفأة ، محتفلة بحبيباتِ المطرِ العابقة برائحةِ الأرضِ خلفَ ستارةِ النافذةِ العذراء ، تتعالى نُكَاتٌ كئيبة , ترتسِمُ معها اِبتساماتٌ ساخرة على ذُرا ثغورٍ شاحبة ، الزوجةُ ترفعُ طبقَ القشّ الخاوي منْ طعامهِ , بعدما داهمتهُ أفواه صغيرة ، ظِلُّ النور المُنبعث منْ عُمقِ دائرةِ المدفأة يتلألأُ على زُجاجٍ مُتغطرسِ الحواف ، لينسُجَ لوحة مُطرَزة , شَدَّتْ نظرات الطفلِ ذو العشر سنين ، شقيقتهُ الأكبر بقليلٍ فقطْ , كانتْ تُداعِبُ دفترها المدرسي في رُكنِ الغُرفةِ الساخنة ، تُديرُ الزوجةُ مسمارَ خزانِ وقودٍ عتيق ، أحكمتْ إغلاقهُ , قبلَ أنْ تدعو زوجها القابع على طرفهِ الأيمن إلى سريرها الرابض في غرفةٍ صغيرةٍ مُجاورة ، ( سآتي بعدَ قليل ) ، قالَ الزوجُ دونَ أنْ يرفعَ نظراتهِ عن نارٍ تحترقُ على ضفافِ زُجاج ، كانَ يكتبُ شيئاً ما ، تتناولُ الزوجةُ أقلامَ زِينتها ، تُحرِرُ ضفائِرَها من قيدِها النهاري ، تبدو وكأنّها عروس الليلة ، تبتسِمُ في سِرّها ( لابُدَّ بأنْ أُعجبهُ اليوم ) قالتْ وهي تُحمْلِقُ بمرآةٍ كُسِرَتْ ساقها مُنذُ زمنٍ ، فُستانُ سهرتِها يتجلى بسوادٍ جميل ، ترمي الفتاةُ بدفترِها إلى قعرِ حقيبةٍ زهريّة ، الطفلُ يأوي لفراشهِ استعداداً لانبعاثِ يومٍ آخر، الصمتُ يغطُّ في سُباته ، الكلبُ وحدَهُ يكسِرُ سكونَ الليل ، لا يلبث أنْ يُعاودُ الصمتُ أدراجه ، المطرُ غادرَ منذُ لحظات ، عيونُ الرجلِ تتشبثُ بِجبينِ الطفلِ الذي بدأتْ عيناهُ تذويان , وشقيقته الشقراء التي بدتْ في فراشها كدمّية ، رَمقهما بنظرةٍ أخيرة ، أدارَ ظَهرهُ ... خطوة .. اثنتان ... يتوقفُ ثُمّ يُعاود ، امتدتْ يدُهُ اليُمنى إلى جيبهِ المنكوب ، أخرجَ ورقةً زرقاءَ منْ فئةِ المئةِ ليرة ، دنا مِنَ الطفلِ برزانتهِ المُعتادة ، تركَ على ثغرهِ قُبّلةً باردة ، ثُمَّ دسَّ بالورقةِ الزرقاء تحتَ وسادته ( لكَ ولأُختِكَ ياولدي ) قالها ثمّ اتجهَ صوبَ الغُرفة التي كادتْ أنْ ترقُصَ فرحاً ، النورُ الخافتُ كانَ كافياً لكَسْرِ العتمة ، الزوجةُ المُنتشيةُ قبلَ لحظاتٍ تَغُطُّ بنومٍ سحيق ، تَمَلْمَلَ الرجلُ قليلاً قبلَ أنْ يستسلمْ ، عندما أشعلتْ الشمسُ جذوتها الأولى ، كانَ الطفلُ يُمسِكُ بالورقةِ الزرقاء ، بينما جَمْهرةٌ غريبةٌ عنهُ تُغادِرُ المنزل للمرةِ الأخيرة ، ذاتَ ليلةٍ شبيهة بعدَ عقودٍ ثلاثة مرّتْ ، كانَ الطفلُ يقصُّ على ولديّه حِكايةَ مدفأة ليلة سوداء ، قبلَ أنْ يَختُمَ قِصّته ، أخرجَ منْ جيبهِ ( الورقة الزرقاء ) ...

__________

وليد.ع.العايش

15/12/2016م
التصنيف : |
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات الجريدة يحيى خضر روائع الشعراءضع ابداعك هنايحيى خضر زيارة صفحة الخصوصية
نسخ الرابط
نسخ للمواقع
التعليقات
0 التعليقات

احدث المواضيع

3efrit blogger 

عدد زوارالجريدة

اضغط اعجبني

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في كل الوقت

احدث المواضيع

المواضيع الأكثر قراءة و مشاهدة في أخر 30 يومًا

ارشيف الجريدة

جميع الحقوق محفوظة © يحيى خضر
تصميم و تطوير : يحيى خضر
يحيى خضر © 2016