رواية (بُـذُورٌ مَــلْــعُــونَــة) ؛؛؛ (5) ؛؛؛ حنين فيروز
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
رواية ________ بُـذُورٌ مَــلْــعُــونَــة (5)
بعض اللّحظات العصيبة تجعل الحياة بكلّ رحابتها تضيق وتضيق حتّى تصبح أشبه بثقب إبرة صدئ يستقرّ داخله خيط قديم،ولا يتمكّن ذلك الخيط من التحرّك من مكانه وإلاّ تمزّق ولن يعود صالحا لشيء،هكذا شعرت هدى إزاء تلك الصدمة التي لم تكن في الحسبان..التي أطاحت بكلّ مخططاتها كريح عاتية صادفت كومة قشّ فبعثرتها في الهواء وتركت مكانها صلدا عاريا..
صوتُ ارتطام كرة تنس فوق سطح سيّارة هدى جعلها تستيقظ من شرودها وتتنفض بخوف،التفتت حولها ورأت ولدين يلعبان على مقربة منها،على الفور بدأ عقلها في العمل كعدّاد سريع..
رضيعة وليس رضيعا،يا للهول ما هذا الهراء ؟
أمسكت هدى رأسها بيديها وتأوّهت بصوت مسموع :
_يا إلهي ما بال هذا العذاب يزيد التصاقه بي يوما بعد يوم؟ من يساعدني في فكّ رموز هذه الطلاسم المحيّرة ؟
عادت بذاكرتها إلى الوراء،تلك الممرضة المكتنزة الوجه، ملامحها الهادئة كانت تبعث على الطمأنينة والرّاحة،لكنّ عينيها كانتا كاذبتين،هكذا شعرت هدى حين قابلتها لأول مرة،لقد اختارتها عمدا،ليست تضمن الممرّضات الشابّات، لكن بديعة تجاوزت الخمسين،ابتسامتها اللطيفة تكسر حاجز الخوف لدى المريض، وهذا ما فقأ عيني مارد الخوف داخلها..
في صباح ذلك اليوم،جاءت بديعة تدفع أمامها كرسيّا متحرّكا،ساعدت هدى على الجلوس فوقه،توجّهت بها نحو المصعد لتنزل إلى جناح العمليّات،حينئذ أشارت هدى لبديعة أن تقترب منها،وهمست في أذنها :
_خذيني إلى الحمّام أولا..
امثتلت بديعة لأمرها على الفور ولا سيما أنّ هدى مريضة جيدة فقد دسّت منذ اللحظة الأولى في جيبها مبلغا ماليّا يمثّل عشرة أضعاف أكبر اكرامية حصلت عليها طوال عملها في ذاك المشفى الحكومي الكبير ..
دفعت بديعة الكرسي داخل الحمّام وأقفلت الباب وراءها وهمّت بمساعدة هدى الّتي قالت بهدوء غريب :
_حين أنجب أريدكِ أن تحضري لي ابني لأراه..
هتفت بديعة بحماس :
_بالطّبع سيّدتي،وسأعتني بكِ جيّدا ولن أفارقكِ حتّى..
أوقفتها هدى بإشارة من يدها وناولتها شيكا تلقّفته بديعة بلهفة،جحظت عيناها حين مرّتا على الرقم المدوّن فيه،بينما تابعت هدى بحزم :
_لا زلتُ لم أكمل حديثي بعد،أريدك أن تغيّري رضيعي برضيع آخر !
بهتَتْ بديعة للحظة لكنّها استردّت رباطة جأشها سريعا وقالت :
_هل من شروط سيّدتي ؟
_نعم،أريده سليما معافى،وأن يكون لأمّه أولادا غيره..!
ابتسمت بديعة برضى وقالت :
_ولا أسهل عليّ من ذلك !
تنهّدت هدى بضيق وشعرت بالانزعاج من سوء خلق بديعة وانعدام ضميرها،لكنّها هزّت كتفيها باستسلام،على الأقل جشع الممرّضة جعل مهمّتها يسيرة،مبلغ مهمّ كالذي منحتها إيّاه أسال لعابها،هكذا أفضل من أن تكون ذات ضمير يقظ وتعرقل مسار خطّتها تلك..
حين استردّت هدى وعيها بعد العمليّة القيصريّة،جاءت بديعة تحمل وليدها ،أطلّت هدى على وجهه الملائكي الجميل ورفضت احتضانه،بينما طارت الممرّضة تعيده إلى جناح المواليد لتغيّر سواره البلاستيكي وتتمّ باقي المهمّة على أكمل وجه..
أسوأ الأوقات لابدّ من مصادفتها ذات يوم،طال الزمن أو قصر،فالقاعة الّتي تستلقي هدى في أحد أسرّتها كريهة وكئيبة،جدرانها تآكل طلاؤها وأعمدة الأسرة يعلوها بعض الصدأ والملاءات لونها مصفرّ بفعل القدم..
حاولت هدى منذ البداية أن تظلّ بمعزل عن بقيّة المريضات،هناك من تُثرثر في الهاتف،وهناك من تتأوّه من الألم
أمّا المريضات الأخريات فيختلسن النّظر إليها بفضول،غطاء سريرها يبدو من النّوع الغالي،منامتها فاخرة..
نظراتهنّ تكاد تنطق متسائلة .. "ترى لماذا تزاحمنا هذه المتعالية في مشفانا البئيس هذا "؟
راقبنها بعيون تملؤها الحسرة،وهي تنعم بحنان زوجها الوسيم الذي كلما ظهر تسبقه باقة ورد ضخمة، تستقبلها هدى بنصف ابتسامة وبيد متراخية وتضعها جانبا، أمّا حماتها الوقورة فهي تقف عند رأسها وتداعب خصلاته النّاعمة بحنان،وتستعطفها من أجل إرضاع الصّغير، تنهّدت إحدى المريضات وهتفت للتي بجوارها :
_يا لها من محظوظة تلك المتعجرفة !
ثلاثة أيّام عصيبة قضتها هدى في ذلك المشفى،بركان نشط داخلها ،تتطاير حممه لتحرق جدران قلبها،ضميرها صار عدوّا لدودا وقف لها بالمرصاد ليؤنّبها على فعلتها الشنيعة،كلّما صرخ الوليد تحمله هدى بتأفف لكنّها سرعان ما تهدهده حين تنتبه إلى نظرات الصقور التي تحيط بها من كلّ جانب..
أصرّت هدى على مرافقة بديعة مرّتين لترى ولو من بعيد أمّ ابنها البديلة،أسندت كتف هدى بذراعها وهتفت بصوتٍ مسموع :
_بضع خطوات في الرّواق ستنشّط دورتك الدموية !
كانت المرأة في مثل سنّها تقريبا،قصيرة القامة ممتلئة الجسم،تلبس روبا صوفيّا أرجوانيّا وتلفّ رأسها بوشاح وردي،راقبتها هدى وهي تضمّ الرضيع بحنان وتبتسم له،تنفست الصعداء وعادت بها بديعة إلى سريرها في القاعة الأخرى..
أطلّتْ هدى على ساعة معصمها الذّهبيّة وأدارت محرّك سيّارتها عائدة إلى البيت،لابد من تواجدها وقت الغذاء وإلا شكّ أسعد في أمرها ولزمَ البيت للعناية بها كما اعتاد أن يفعل كلّما تغيّرت أحوالها..
ساعة واحدة لن تُحدث فرقا،ما إن يغادر البيت حتّى تقصد ذلك المشفى،لن تستسلم هذه المرّة في البحث عن تلك المخادعة،حتى لو كانت في قعر بئر ستجدها،هذه المرّة لن تلجأ إلى موظفة الاستقبال العابسة التّي دفعت ورقة هدى المالية بعيدا عنها ببرود وقالت بجفاء :
_ليس لدينا ممرّضة بهذا الاسم..
قاطعتها هدى :
_لقد قابلتها هنا منذ ما يقارب السّنة !
مطّت الموظفة شفتيها وقالت بامتعاض :
_ما من موظفة بهذا الإسم ،لا السنة الماضية ولا الآتية !
وعادت تحملق في شاشة الحاسوب وتملأ استماراتٍ أمامها،شعرت هدى أنّها لن تنجح في اقناعها بالمساعدة لذلك قصدت مركز الشّرطة ليتكفّلوا هم بالمسألة برمّتها، لكنّ الضابط أيضا لم يكن إيجابيّا ولم تنجح في استرعاء اهتمامه..
شرودها وهي تتناول طعامها بآلية استرعى انتباه زوجها أسعد وظلّ يراقبها بحزن وصمت،حين التقت عيناه بعيني والدته رفعت حاجبيها أسفا على تدهور حالها ثانية ..
حاول أسعد أن يكسر حاجز الصّمت بحديثه اللطيف لكنّ هدى كانت تسبح في واد جارف من الشّكوك والحيرة،لذلك لم تسمع ولا كلمة من كلامه..
ساعدت حماتها في تنظيف طاولة الطّعام وجلست فوق أريكة أمام التلفاز،بينما حمل أسعد أكرم الصغير إلى غرفته وشرع في ملاعبته ..
_من أكرم ؟ إنه ابني الشجاع،ابن بابا وقلبه وحياته من ؟ إنّه أكرم القويّ !
هبّت هدى واقفة حين سمعت ذلك الحديث المزعج بالنّسبة لها واتّجهت إلى غرفتها،وتناولت قرصا مهدئا وسرعان ما غطّت في نوم عميق..
في المساء فُتح الباب على مصراعيه وتدافع النّاس لزيارة أحبائهم في المشفى،ومن بينهم هدى التي اتجهت رأسا إلى جناح الولادة،الذي يضمّ عشر قاعات،طافت حولهم جميعا وأطلّت برأسها داخلها تبحث عن ضالّتها..ولكن بدون جدوى..
لفت انتباهها لافتة مدوّنٌ عليها غرفة الممرّضات..تردّدت للحظة واستجمعت شجاعتها وطرقت الباب بهدوء..
لكنّ الجلبة في الدّاخل حالت دون سماع طرقاتها،أعادت الكرّة مرّة ثانية،سمعت صوتا حادّا يصيح :
_ادخل !
دلفت إلى الغرفة ببطء،تطلّعت إلى الممرّضات وهنّ يشربن الشاي ويقضمن قطع البسكويت،كنّ منشغلات بالحديث مع بعضهن،تسمّرت نظرات هدى على الأكبر سنّا فيهنّ وتقدمت نحوها وقالت بارتباك :
_معذرة سيّدتي على مقاطعتي لاستراحتكنّ،لكني أبحث عن ممرّضة كانت تعمل هنا!
رفعت رئيسة الممرّضات بصرها نحو هدى وقالت ببرود:
_وما حاجتكِ إليها؟
ردّت هدى بسرعة :
_أريدها أن تعتني بحماتي !
قهقهت رئيسة الممرّضات بسخرية وقالت :
_وهل حماتكِ حامل،يمكنكِ اختيار أي من هؤلاء الممرّضات،إن كان الأمر ملحّ حقّا!
نبرة الرئيسة الساخرة جعلت الممرّضات ينتبهن إلى الزائرة الأنيقة ويتطلّعن إليها بفضول،اقتربت هدى قليلا من الرّئيسة وقالت بتباث :
_سيّدتي الموضوع مهمّ حقّا،لدرجة أنّي لجأت إلى الشّرطة لمساعدتي،لكنّي مازلتُ لم أخبرهم بعد بالتفاصيل..
اكتست ملامح رئيسة الممرّضات طابع الجدّية وقالت بحدة :
_ما إسمها ؟
ازدردت هدى لعابها من فرط التوتّر ومن نظرات الممرّضات الفضولية وهمست :
_هي امرأة تشبهكِ وتبدو في مثل سنّك..قاطعتها الرّئيسة بغضب :
_ما إسمها ؟
تنهّدت هدى وقالت :
_بديعة..ولا أعرف اسمها بالكامل !
أطرقت الرّئيسة رأسها لثوانِ قليلة ثمّ قالت بحزم :
_لا أعرف أحدا بهذا الإسم..والتفتت إلى باقي الممرّضات وسألتهنّ :
_هل سبق أن صادفتنّ ممرّضة في هذا المشفى بهذا الإسم؟
حرّكن جميعا رؤوسهنّ نفيا،بينما داهم اليأس هدى وكبّل خطواتها، غمغمت بحزن :
_شكرا لكنّ،وعذرا على إزعاجكنّ..
دارت على عقبيها وغادرت الغرفة،وعشرات الأسئلة تطوف في فكرها،يتقدّمها السؤال الرّئيسي..
_أين أجد بديعة آين ؟
_مهلا سيّدتي !
التفتت هدى لصاحبة الصوت،وفوجئت بعاملة نظافة شابّة تبتسم وتناولها ورقة صغيرة وتهمس في أذنها :
_بعثَتها لكِ رئيسة الممرّضات !
سارعت هدى إلى فتحها وقرأت ..مشفى الشّفاء، شارع الأمل، قسم المواليد الخدّج .
دسّت هدى يدها في حقيبتها لتكافئ العاملة،لكنّها كانت قد اختفت بلمح البصر..
صوتُ ارتطام كرة تنس فوق سطح سيّارة هدى جعلها تستيقظ من شرودها وتتنفض بخوف،التفتت حولها ورأت ولدين يلعبان على مقربة منها،على الفور بدأ عقلها في العمل كعدّاد سريع..
رضيعة وليس رضيعا،يا للهول ما هذا الهراء ؟
أمسكت هدى رأسها بيديها وتأوّهت بصوت مسموع :
_يا إلهي ما بال هذا العذاب يزيد التصاقه بي يوما بعد يوم؟ من يساعدني في فكّ رموز هذه الطلاسم المحيّرة ؟
عادت بذاكرتها إلى الوراء،تلك الممرضة المكتنزة الوجه، ملامحها الهادئة كانت تبعث على الطمأنينة والرّاحة،لكنّ عينيها كانتا كاذبتين،هكذا شعرت هدى حين قابلتها لأول مرة،لقد اختارتها عمدا،ليست تضمن الممرّضات الشابّات، لكن بديعة تجاوزت الخمسين،ابتسامتها اللطيفة تكسر حاجز الخوف لدى المريض، وهذا ما فقأ عيني مارد الخوف داخلها..
في صباح ذلك اليوم،جاءت بديعة تدفع أمامها كرسيّا متحرّكا،ساعدت هدى على الجلوس فوقه،توجّهت بها نحو المصعد لتنزل إلى جناح العمليّات،حينئذ أشارت هدى لبديعة أن تقترب منها،وهمست في أذنها :
_خذيني إلى الحمّام أولا..
امثتلت بديعة لأمرها على الفور ولا سيما أنّ هدى مريضة جيدة فقد دسّت منذ اللحظة الأولى في جيبها مبلغا ماليّا يمثّل عشرة أضعاف أكبر اكرامية حصلت عليها طوال عملها في ذاك المشفى الحكومي الكبير ..
دفعت بديعة الكرسي داخل الحمّام وأقفلت الباب وراءها وهمّت بمساعدة هدى الّتي قالت بهدوء غريب :
_حين أنجب أريدكِ أن تحضري لي ابني لأراه..
هتفت بديعة بحماس :
_بالطّبع سيّدتي،وسأعتني بكِ جيّدا ولن أفارقكِ حتّى..
أوقفتها هدى بإشارة من يدها وناولتها شيكا تلقّفته بديعة بلهفة،جحظت عيناها حين مرّتا على الرقم المدوّن فيه،بينما تابعت هدى بحزم :
_لا زلتُ لم أكمل حديثي بعد،أريدك أن تغيّري رضيعي برضيع آخر !
بهتَتْ بديعة للحظة لكنّها استردّت رباطة جأشها سريعا وقالت :
_هل من شروط سيّدتي ؟
_نعم،أريده سليما معافى،وأن يكون لأمّه أولادا غيره..!
ابتسمت بديعة برضى وقالت :
_ولا أسهل عليّ من ذلك !
تنهّدت هدى بضيق وشعرت بالانزعاج من سوء خلق بديعة وانعدام ضميرها،لكنّها هزّت كتفيها باستسلام،على الأقل جشع الممرّضة جعل مهمّتها يسيرة،مبلغ مهمّ كالذي منحتها إيّاه أسال لعابها،هكذا أفضل من أن تكون ذات ضمير يقظ وتعرقل مسار خطّتها تلك..
حين استردّت هدى وعيها بعد العمليّة القيصريّة،جاءت بديعة تحمل وليدها ،أطلّت هدى على وجهه الملائكي الجميل ورفضت احتضانه،بينما طارت الممرّضة تعيده إلى جناح المواليد لتغيّر سواره البلاستيكي وتتمّ باقي المهمّة على أكمل وجه..
أسوأ الأوقات لابدّ من مصادفتها ذات يوم،طال الزمن أو قصر،فالقاعة الّتي تستلقي هدى في أحد أسرّتها كريهة وكئيبة،جدرانها تآكل طلاؤها وأعمدة الأسرة يعلوها بعض الصدأ والملاءات لونها مصفرّ بفعل القدم..
حاولت هدى منذ البداية أن تظلّ بمعزل عن بقيّة المريضات،هناك من تُثرثر في الهاتف،وهناك من تتأوّه من الألم
أمّا المريضات الأخريات فيختلسن النّظر إليها بفضول،غطاء سريرها يبدو من النّوع الغالي،منامتها فاخرة..
نظراتهنّ تكاد تنطق متسائلة .. "ترى لماذا تزاحمنا هذه المتعالية في مشفانا البئيس هذا "؟
راقبنها بعيون تملؤها الحسرة،وهي تنعم بحنان زوجها الوسيم الذي كلما ظهر تسبقه باقة ورد ضخمة، تستقبلها هدى بنصف ابتسامة وبيد متراخية وتضعها جانبا، أمّا حماتها الوقورة فهي تقف عند رأسها وتداعب خصلاته النّاعمة بحنان،وتستعطفها من أجل إرضاع الصّغير، تنهّدت إحدى المريضات وهتفت للتي بجوارها :
_يا لها من محظوظة تلك المتعجرفة !
ثلاثة أيّام عصيبة قضتها هدى في ذلك المشفى،بركان نشط داخلها ،تتطاير حممه لتحرق جدران قلبها،ضميرها صار عدوّا لدودا وقف لها بالمرصاد ليؤنّبها على فعلتها الشنيعة،كلّما صرخ الوليد تحمله هدى بتأفف لكنّها سرعان ما تهدهده حين تنتبه إلى نظرات الصقور التي تحيط بها من كلّ جانب..
أصرّت هدى على مرافقة بديعة مرّتين لترى ولو من بعيد أمّ ابنها البديلة،أسندت كتف هدى بذراعها وهتفت بصوتٍ مسموع :
_بضع خطوات في الرّواق ستنشّط دورتك الدموية !
كانت المرأة في مثل سنّها تقريبا،قصيرة القامة ممتلئة الجسم،تلبس روبا صوفيّا أرجوانيّا وتلفّ رأسها بوشاح وردي،راقبتها هدى وهي تضمّ الرضيع بحنان وتبتسم له،تنفست الصعداء وعادت بها بديعة إلى سريرها في القاعة الأخرى..
أطلّتْ هدى على ساعة معصمها الذّهبيّة وأدارت محرّك سيّارتها عائدة إلى البيت،لابد من تواجدها وقت الغذاء وإلا شكّ أسعد في أمرها ولزمَ البيت للعناية بها كما اعتاد أن يفعل كلّما تغيّرت أحوالها..
ساعة واحدة لن تُحدث فرقا،ما إن يغادر البيت حتّى تقصد ذلك المشفى،لن تستسلم هذه المرّة في البحث عن تلك المخادعة،حتى لو كانت في قعر بئر ستجدها،هذه المرّة لن تلجأ إلى موظفة الاستقبال العابسة التّي دفعت ورقة هدى المالية بعيدا عنها ببرود وقالت بجفاء :
_ليس لدينا ممرّضة بهذا الاسم..
قاطعتها هدى :
_لقد قابلتها هنا منذ ما يقارب السّنة !
مطّت الموظفة شفتيها وقالت بامتعاض :
_ما من موظفة بهذا الإسم ،لا السنة الماضية ولا الآتية !
وعادت تحملق في شاشة الحاسوب وتملأ استماراتٍ أمامها،شعرت هدى أنّها لن تنجح في اقناعها بالمساعدة لذلك قصدت مركز الشّرطة ليتكفّلوا هم بالمسألة برمّتها، لكنّ الضابط أيضا لم يكن إيجابيّا ولم تنجح في استرعاء اهتمامه..
شرودها وهي تتناول طعامها بآلية استرعى انتباه زوجها أسعد وظلّ يراقبها بحزن وصمت،حين التقت عيناه بعيني والدته رفعت حاجبيها أسفا على تدهور حالها ثانية ..
حاول أسعد أن يكسر حاجز الصّمت بحديثه اللطيف لكنّ هدى كانت تسبح في واد جارف من الشّكوك والحيرة،لذلك لم تسمع ولا كلمة من كلامه..
ساعدت حماتها في تنظيف طاولة الطّعام وجلست فوق أريكة أمام التلفاز،بينما حمل أسعد أكرم الصغير إلى غرفته وشرع في ملاعبته ..
_من أكرم ؟ إنه ابني الشجاع،ابن بابا وقلبه وحياته من ؟ إنّه أكرم القويّ !
هبّت هدى واقفة حين سمعت ذلك الحديث المزعج بالنّسبة لها واتّجهت إلى غرفتها،وتناولت قرصا مهدئا وسرعان ما غطّت في نوم عميق..
في المساء فُتح الباب على مصراعيه وتدافع النّاس لزيارة أحبائهم في المشفى،ومن بينهم هدى التي اتجهت رأسا إلى جناح الولادة،الذي يضمّ عشر قاعات،طافت حولهم جميعا وأطلّت برأسها داخلها تبحث عن ضالّتها..ولكن بدون جدوى..
لفت انتباهها لافتة مدوّنٌ عليها غرفة الممرّضات..تردّدت للحظة واستجمعت شجاعتها وطرقت الباب بهدوء..
لكنّ الجلبة في الدّاخل حالت دون سماع طرقاتها،أعادت الكرّة مرّة ثانية،سمعت صوتا حادّا يصيح :
_ادخل !
دلفت إلى الغرفة ببطء،تطلّعت إلى الممرّضات وهنّ يشربن الشاي ويقضمن قطع البسكويت،كنّ منشغلات بالحديث مع بعضهن،تسمّرت نظرات هدى على الأكبر سنّا فيهنّ وتقدمت نحوها وقالت بارتباك :
_معذرة سيّدتي على مقاطعتي لاستراحتكنّ،لكني أبحث عن ممرّضة كانت تعمل هنا!
رفعت رئيسة الممرّضات بصرها نحو هدى وقالت ببرود:
_وما حاجتكِ إليها؟
ردّت هدى بسرعة :
_أريدها أن تعتني بحماتي !
قهقهت رئيسة الممرّضات بسخرية وقالت :
_وهل حماتكِ حامل،يمكنكِ اختيار أي من هؤلاء الممرّضات،إن كان الأمر ملحّ حقّا!
نبرة الرئيسة الساخرة جعلت الممرّضات ينتبهن إلى الزائرة الأنيقة ويتطلّعن إليها بفضول،اقتربت هدى قليلا من الرّئيسة وقالت بتباث :
_سيّدتي الموضوع مهمّ حقّا،لدرجة أنّي لجأت إلى الشّرطة لمساعدتي،لكنّي مازلتُ لم أخبرهم بعد بالتفاصيل..
اكتست ملامح رئيسة الممرّضات طابع الجدّية وقالت بحدة :
_ما إسمها ؟
ازدردت هدى لعابها من فرط التوتّر ومن نظرات الممرّضات الفضولية وهمست :
_هي امرأة تشبهكِ وتبدو في مثل سنّك..قاطعتها الرّئيسة بغضب :
_ما إسمها ؟
تنهّدت هدى وقالت :
_بديعة..ولا أعرف اسمها بالكامل !
أطرقت الرّئيسة رأسها لثوانِ قليلة ثمّ قالت بحزم :
_لا أعرف أحدا بهذا الإسم..والتفتت إلى باقي الممرّضات وسألتهنّ :
_هل سبق أن صادفتنّ ممرّضة في هذا المشفى بهذا الإسم؟
حرّكن جميعا رؤوسهنّ نفيا،بينما داهم اليأس هدى وكبّل خطواتها، غمغمت بحزن :
_شكرا لكنّ،وعذرا على إزعاجكنّ..
دارت على عقبيها وغادرت الغرفة،وعشرات الأسئلة تطوف في فكرها،يتقدّمها السؤال الرّئيسي..
_أين أجد بديعة آين ؟
_مهلا سيّدتي !
التفتت هدى لصاحبة الصوت،وفوجئت بعاملة نظافة شابّة تبتسم وتناولها ورقة صغيرة وتهمس في أذنها :
_بعثَتها لكِ رئيسة الممرّضات !
سارعت هدى إلى فتحها وقرأت ..مشفى الشّفاء، شارع الأمل، قسم المواليد الخدّج .
دسّت هدى يدها في حقيبتها لتكافئ العاملة،لكنّها كانت قد اختفت بلمح البصر..
( يتبع )
حنين فيروز 28/04/2016
نسخ الرابط | |
نسخ للمواقع |